الحصانةالذاتية
ملخص الخطبة
1- أهمية الحصانة الذاتية. 2- تأسيس الإسلام لضوابط الحصانة الذاتية للفرد والمجتمع. 3- عوامل الحصانة الذاتية. 4- نماذج من الحصانة الذاتية التي غرسها ديننا العظيم. 5- آثار الحصانة الذاتية.**الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين. ان اصدق الحديث كلام الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله علية وسلم وشر الامور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار** يقول الله تعالى( ياايها الذين امنوا اتقوا الله حق تقاتة ولا تموتن الا وانتم مسلمون) فاتقوا ربكم يا مسلمون، وإن تتّقوا الله يجعل لكم فرقانا، ويكفر عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم، والله ذو الفضل العظيم.
إخوة الإسلام، اليوم سنتحدث بإذن الله عن موضوع مهم، موضوع في غاية الأهمية، يهمك أيها المسلم، ويهم أهل بيتك، زوجتك، أبناءك وبناتك، يهم الصغير والكبير، الذكر والأنثى. موضوع تميّز به ديننا، ضبطه أيما ضبط، ورعاه أيما رعاية، وكفل لمن اتبع هدي الكتاب والسنة في بيانهما ومنهجهما الهداية التامة والصراط المستقيم.
حديثنا اليوم منهج حياة وحصن حصين في مواجهة ذلك المدّ المدلهم من الأفكار المضللة والشبهات المفسدة والشهوات المحرمة. حديثنا موجه أولاً لنا، فنحن مطالبون بهذا الأمر، كما أنه ثانيًا موجه لنا لنغرسه في أهلنا، يقول المولى عز وجل( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم6:]. فإذا كان الأمر كذلك فحديثنا اليوم بإذن الله عما يسمى بالحصانة الذاتية، والحصانة الذاتية تجعل الفرد المسلم قادرًا على حماية نفسه من كلّ ما يؤثر عليها سلبًا من أفكار أو شهوات أو شبهات.
أيها المسلمون، لقد أسّس الإسلام ضوابط الحصانة الذاتية للفرد والمجتمع، فجعل الله سبحانه وتعالى مراقبته من أعلى المنازل وأجلّها، وبين سبحانه مجموعة من صفاته إذا استشعرها المسلم علم أن الله مطلع عليه، يرى مكانه، ويسمع كلامه، يعلم حركاته وسكناته، لا تخفى عليه خافية، فهو سبحانه وتعالى السميع العليم البصير: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7].
وهذا المعنى الجليل ـ أعني مراقبة الله سبحانه وتعالى في السر والعلن ـ هو الضابط الرئيس في الحصانة الذاتية، فالمسلم المراقب لله تعالى يستشعر هذا المعنى في كل وقت وفي كل حين، أمام الناس، في معاملاته، وفي خلواته، أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [التوبة:78].
لقد بث ديننا الإسلامي هذا المعنى في غير موضع، مرات بالتصريح، وأخرى بالتلميح الذي يفيد التصريح، فقص علينا قصة يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، وبين ما كان منه عليه الصلاة والسلام من ثبات على الدين ومراقبة لله سبحانه وتعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]، فمع كل تلك المغريات إلا أن يوسف عليه السلام صمد صمود الجبال، وكانت حصانته الذاتية لنفسه خير معين بعد توفيق الله تعالى.
وهذا رسولنا يشير للشباب ـ محل فورة الشهوة وقوتها ـ بأنك ـ أيها الشاب ـ يمكنك أن تحصن نفسك بمراقبة الله تعالى وعبادته، وتحوز على أعلى المنازل يوم القيامة، فمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((شاب نشأ في عبادة ربه)) كما ثبت في الصحيح. لقد أورد هذا الحديث الإمام البخاري في باب: فضل من ترك الفواحش.
سئل بعض السلف: بم يستعين الرجل على غض بصره عن المحظورات؟ قال: "بعلمه أن رؤية الله تعالى سابقة على نظره ذلك".
كان من دعاء النبي : ((أسألك خشيتك في الغيب والشهادة)). والمعنى: أن العبد يخشى الله سرًا وعلانية، ظاهرًا وباطنًا، فإن أكثر الناس قد يخشى الله في العلانية وفي الشهادة، ولكن الشأن خشية الله في الغيب، إذا غاب عن أعين الناس. فقد مدح الله من خافه بالغيب. وكان بكر المزني رحمه الله يدعو لإخوانه: "زهّدَنا الله وإياكم في الحرام، زهادة من أمكنه الحرام والذنب في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه".
أخي المسلم، إن مراقبة الله تعالى هي الباب الأكبر في الحصانة الذاتية، والذي ينبغي أن نحرص على أن نتمثلها في كل وقت، ينبغي أن نحقق هذا الأمر في أبناءنا وبناتنا، ما أجمل أن تذكر أبناءك صغارًا وكبارًا باطلاع الله عليهم، وأنه إن فعل شيئًا خطأ وأنت لا تراه فإن الله يراه، إذا غُرس هذا المعنى العظيم في نفوس الأولاد بنين وبنات كان له أعظم الأثر بإذن الله في حصانتهم وحمايتهم.
أيها المسلمون، لم يكتف الإسلام بهذا الأمر العظيم في غرس الحصانة الذاتية، بل جعل لها أبوابًا أخرى نذكرها على سبيل المثال لا الحصر؛ فديننا ما ترك خيرًا إلا دل الأمة عليه، وما ترك شرًا إلا حذر الأمة منه.
فهذا ربنا سبحانه يدل الأمة على حصانة فروجهم، ويبين لهم أن الطريق الأول لذلك هو غضّ البصر، فقد أمر رب السموات والأرض خالق هذا الكون ومدبر شؤونه، العالم بخفايا أموره، وبكل ما كان وما سيكون، أمر بغض البصر عما لا يحل، قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:30، 31].
قال صاحب أضواء البيان رحمه الله في تفسير هذه الآية: "أمر الله جل وعلا المؤمنين والمؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج، ويدخل في حفظ الفرج حفظه من الزنا واللواط والمساحقة، وحفظه من الإبداء للناس والانكشاف لهم، وقد دلت آيات أخر على أن حفظه من المباشرة المدلول عليه بهذه الآية يلزم عن كل شيء إلا الزوجة والسرية، وذلك في قوله تعالى في سورة المؤمنون وسأل سائل: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المعارج:29، 30]".
وقال الشيخ السعدي رحمه في تفسير هذه الآية: "أي: أرشِد المؤمنين وقل لهم الذين معهم إيمان يمنعهم من وقوع ما يخل بالإيمان يغضوا من أبصارهم عن النظر إلى العورات، وإلى النساء الأجنبيات، وإلى المردان الذين يخاف بالنظر إليهم الفتنة، وإلى زينة الدنيا التي تفتن وتوقع في المحذور، وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ عن الوطء الحرام في قبل أو دبر أو ما دون ذلك، وعن التمكين من مسها والنظر إليها، ذلك الحفظ للأبصار والفروج أَزْكَى لَهُمْ أطهر وأطيب، وأنمى لأعمالهم، فإن من حفظ فرجه وبصره طهر من الخبث الذي يتدنس به أهل الفواحش، وزكت أعماله بسبب ترك المحرم الذي تطمع إليه النفس وتدعو إليه، فمن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، ومن غض بصره أنار الله بصيرته، ولأن العبد إذا حفظ فرجه وبصره عن الحرام ومقدماته مع دواعي الشهوة كان حفظه لغيره أبلغ، ولهذا سماه الله حفظا، فالشيء المحفوظ إن لم يجتهد حافظه في مراقبته وحفظه وعمل الأسباب الموجبة لحفظه لم ينحفظ، كذلك البصر والفرج إن لم يجتهد العبد في حفظهما أوقعاه في بلايا ومحن".
قال البخاري رحمه الله: "وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن: إن نساء العجم يكشفن صدرهن ورؤوسهن! قال: اصرف بصرك عنهن". فهل من حفظ الفروج والأبصار النظر إلى النساء الأجنبيات في القنوات والمحطات؟!
ومن أبواب الحصانة الذاتية التي غرسها الإسلام أمره بالحجاب الشرعي للمرأة، وذلك بتغطية جميع أجزاء جسمها بالملابس الفضفاضة التي لا تشف ولا تصف، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59].
وهنا أهمس في أذن أولياء الأمور والآباء بالحرص على حجاب بناتهم وزوجاتهم، الحجاب الشرعي الذي ليس فيه زينة ولا فتنة. وللأسف أنه قد ظهرت أنواع من العباءات فيها من الفتنة الشيء الكثير، مما يظهر للناظر من أول نظرة.
فلنتق الله، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. وبعض النساء ـ هداهن الله ـ يرتدين تلك العباءات ليس من باب سوء القصد، ولكن من باب الموضة، ولا يعلمن أنهن بفعلهن هذا يؤثرن على من في قلبه مرض.
ومن الحصانة الذاتية التي غرسها ديننا العظيم تحريم الاختلاط بين الرجال والنساء، فهذا نبيُّنا يقول في الصّلاة فيما رواه الإمام مسلم: ((خيرُ صفوف الرجال أوّلُها وشرُّها آخرها، وخير صفوفِ النّساء آخرُها وشرّها أوّلها)) حثًّا للمرأةِ على البُعد عنِ الرجال. وكان النساءُ في عهدِ النبيّ يشهدن الصلوات، تقول عائشة رضي الله عنها: يشهَد نساءٌ مع النبيّ الصلاة، يرجِعنَ في غايةٍ من التحفُّظ، لا يعرِفُهنّ أحدٌ من حسنِ سِترهنّ وعفافِهن، متلفِّعاتٍ بمروطهِنّ، لا يُعرَفنَ من الغَلَس. أخرجه مسلم. هذا كان في عهد النبي ، في مجتمعاتٍ نظيفةً ومجتمعاتٍ طيّبة، ومع هذا حُذِّروا من كلِّ وسيلة توقِع في الشرّ والفساد.
اللهم احفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وقنا شر أنفسنا.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لى ولكم وسائر المسلمين من كل ذنب.
الخطبة الثانيةأمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوَى الله.
عباد الله، أبواب الحصانة الذاتية كثيرة، فديننا العظيم أبان وأوضح، فها هو يحرم مصافحة المرأة الأجنبية، ويأمر بالتفريق بين الأبناء في المضاجع، ويحرم خلو المرأة الأجنبية بالرجل، ويأمر بالحياء ويحث عليه ويجعله من خصال الإيمان، إلى غير ذلك مما حصن به ديننا الإسلامي الرجل والمرأة على حد سواء.
أيها المسلمون، إن الحصانة الذاتية للفرد والمجتمع تقود الأمة إلى مجتمع طاهر نظيف، مجتمع طاهر عَفيف، لا يتأثَّر بالفواحِشِ، ولا يروج فيه سوقُ الخنا، ولا يُعَطَّل فيه الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر، جاء ليقيمَ المجتمع المسلمَ على أُسُس من القِيَم والأخلاق والفضائل.
ثم اعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعةِ، ومَن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبدِ الله ورسولِه محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلَفائِهِ الرّاشدين الأئِمّة المهديّين...