مراقبة الله عز وجل
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي وسع كل شيء علماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الكبير اللطيف الخبير، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى والرسول المجتبى، الداعي إلى أكمل الدين والهدى، صاحب المقام المحمود واللواء المعقود، والحوض المورود، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
أيها الناس،اتقوا الله في السر والعلن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتذكروا أنكم لم تخلقوا عبثاً ولم تتركوا سدى، بل خلقتم للعبادة، وأمرتم بالطاعة، ونهيتم عن المخالفة، وأنكم كادحون إلى ربكم كدحاً فملاقوه " ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى " " فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى ".
أيها المسلمون: صح في الحديث عن نبيكم صلى الله عليه وسلم قوله: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك "، ومقتضى هذا الحديث أن يسير العبد الناصح لنفسه في طريقه إلى ربه على هذه الصفة، يعبد الله كأن الله يشاهده، فإن لم يتيسر له هذا المقام فليعبد الله بمقام المراقبين بحيث يستشعر المرء أن الله يراقبه، فهو معه بعلمه وإحاطته أينما كان، يسمع أقواله، ويرى أعماله، ويعلم أحواله " الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار * عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال * سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ".
فاعتقاد هذا القرب واستحضار تلك المعية يوجبان للعبد الخشية والخوف من الله تعالى، والهيبة والتعظيم والإجلال له سبحانه، ويبعثان على الحياء من الله تعالى والخجل من مقارفة معصيته، والإخلاص لله في عبادته وتحسينها وإتمامها وإكمالها، طمعاً في جزيل مثوبته.
ولذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المقام جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، قال أبو ذر رضي الله عنه: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن أخشى الله كأني أراه فإن لم أكن أراه فإنه يراني، وقال " ابن عمر رضي الله عنهما: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال: اعبد الله كأنك تراه "، و " قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: حدثني بحديث واجعله موجزاً، فقال رجلاً فقال: استح من الله استحياءك من رجلين من صالحي عشيرتك لا يفارقانك ".
ويكفي في ذلك قول الحق سبحانه: " وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ".
أيها المسلمون: فمراقبة العبد لربه هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الله تعالى على سره وعلانيته، وأنه سبحانه ناظر إليه في شتى حالاته، قال تعالى: " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا "، ومتى عقل المرء هذا الأمر واستيقنه قلبه واستحضر موقفه غداً بين يدي ربه كان باعثاً له على الإكثار من الطاعات، ومجانبة المنكرات وأنواع المخالفات، وقرب التوبة من السيئات، والاشتغال بعمارة وقته بأنواع الصالحات، خشية من الفوت وحذراً من مفاجأة الموت.
وهذا المقام هو الذي منع يوسف نبي الله عن المعصية حينما ابتلي " وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون "، وهذا المقام هو الذي جعل الفتاة التي أمرتها أمها أن تغش اللبن قبل بيعه للناس أن تراجع أمها قائلة: يا أماه! ألا تخافين من عمر؟ تعني أمير المؤمنين، فقالت لها أمها: إن عمر لا يرانا، فقالت الفتاة: إن كان عمر لا يرانا فرب عمر يرانا، وكذلك الرجل الذي تمكن من المرأة فقالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام وتركها، وترك المال الذي أعطاها لما ذكرته بتقوى الله فقام وتركها خوفاً من الله، وأمثلة ذلك في الناس كثيرة.
معشر المسلمين: والغفلة عن هذا المقام هي التي جعلت بعض الناس ينامون عن صلاة الفجر مطمئنين غير مبالين، وآخرين يأكلون أموال الناس محتالين، وفريقاً يلوذون عن أنظار المسلمين في البيوت ونحوها، فيباشرون فظيع الإجرام، وينتهكون العرض الحرام، فلو كان لهؤلاء قلوب يقظة حية تعتقد أنه لا يحجز بصر الله حاجز، ولا يرد حكمه راد، ولا يجير من عذابه مجير، لما بارزوا الله بالعصيان، وارتكبوا أنواع الإثم والعدوان، ولكن غفلت القلوب فتراكمت الذنوب حتى استهانوا بوعيد علام الغيوب، والله تعالى يقول: " ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار "، ويقول صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته "، ثم تلا قول الله تعالى: " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ".
فاتقوا الله عباد الله وراقبوه في جميع أحوالكم، واتقوه وأطيعوه مخلصين في جميع أعمالكم، فإنه عليكم رقيب، ومنكم قريب، وأعمالكم عليكم محصاة، وغداً موفاة، وصح عن نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول الله عز وجل: يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه "، " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ".
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وجعلنا من خاصة أوليائه وأحبابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً مباركاً كثيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كفى به بذنوب عباده خبيراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بالحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: إن كثيراً من الناس اليوم أعرضوا عن العلم الشرعي النافع المبارك، لأنه في نظرهم لا يخدمهم في أمور الحياة، فشغلوا أوقاتهم بغيره، وصدوا عن طاعة الله وذكره، وضيعوا أوقاتهم في العكوف على الملاهي، وصار الواحد يجاهر بمعصية الله ويباهي، ويتنافسون في معرفة اللغات الأجنبية والمسالك الكفرية من أجل التجارات وتحقيق المباهاة، ويبذلون جهدهم في ذلك ويخسرون الكثير من أموالهم في سبيل ذلك، وكم يتعرضون له من أجلها من أنواع الضلال وأسباب المهالك، وغاية ما هم عليه أن ينال أحدهم شيئاً من عرض الدنيا، وماذا يغنيه لو حصله وقد عرض نفسه للخسارة في الأخرى؟.
فاتقوا الله عباد الله في أنفسكم وفي أولادكم وذويكم، واعلموا أنه لا سعادة لكم إلا في أن تعبدوا الله على بصيرة، ولا سبيل لذلك إلا بالفقه في الدين ومعرفة سنة النبي الأمين، ومن أراد الآخرة فاز بالدنيا والآخرة، ومن أراد الدنيا فاتته الآخرة، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، فتفقهوا في دينكم والزموا هدي نبيكم، وأخلصوا العمل لوجه ربكم، تكونوا من السعداء في الدنيا والآخرة ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله ، " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ".
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.