التحذير من حصائد الألسنة
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأقوالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت، فإن الله تعالى قال: " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ".
أيها الناس: اتقوا خطر ألسنتكم، فإن كلام ابن آدم كله محفوظ عليه، يقول تعالى: " وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون " وكل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا ذكر الله وما والاه. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم "، والمراد بحصائد ألسنتهم جزاء الكلام المحرم وعقوباته، فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات أو السيئات، وكل سيحصد ما زرع يوم القيامة، فمن زرع خيراً حصد كرامة، ومن زرع شراً حصد ندامة. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يظن أن تبلغ ما بلغت يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ".
أيها المسلمون: كان ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ بلسانه ويقول: " ويحك، قل خيراً تغنم أو اسكت عن سوء تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم "، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان، وفي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى فيها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار ".
أيها المسلمون: ما أكثر الناس اليوم الذين يتصدرون المجالس والمنتديات بكلام لا يرون به بأساً، فيعرضون أنفسهم لهذا الوعيد، فما أكثر الذين يتصدرون المجالس بالكذب! وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ". وقد وصف الله الكاذبين بأقبح ما وصف به الكافرين الجاحدين لآيات الله فقال: " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ".
أيها المسلمون: تتفاوت درجات الكذب بحسب ما يحدثه من الضرر، ويجره من الشر، فأعظم الكذب إثماً القول على الله ورسوله وفي دينه بغير علم، والجرأة على التحريم والتحليل دون برهان، قال تعالى: " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون "، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كذب علي متعمداً - وفي لفظ: من قال علي ما لم أقل - فليتبوأ مقعده من النار ".
وقد " رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء رجلاً يشرشر شدقه إلى قفاه، هكذا يعذب إلى يوم القيامة، فسأل عنه، فقيل له: هو الرجل يكذب الكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق ". وما أكثر الذين يختلقون الأكاذيب ليضحكوا الناس، أو ليضلوهم، أو ليصلوا بواسطة الكذب إلى أغراض خبيثة وأهداف دنيئة، ثم ينشرون هذه الأكاذيب في المجالس أو عبر وسائل الإعلام المتنوعة، فيقلبوا الحق باطلاً والباطل حقاً، ويظهروا الحسنات على أنها سيئات والسيئات بمظهر الحسنات، بواسطة زخرف القول. وصدق الله العظيم إذ يقول: " شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ".
أيها المسلمون: ومن أنواع الكلام المذموم الذي ينتشر في بعض مجالس الناس الخوض في الباطل، وهو الكلام في المعاصي، والتحدث عنها بما يروجها بين الناس، أو يهون وقعها على مسامعهم،ويشيع الفاحشة بينهم. ومنه التحدث بما يقع في المجتمع من المخالفات التي يرتكبها بعض الأفراد حيث يتحدث بها من له اطلاع عليها ممن قل فقهه في مجالس العامة، والتحدث عنها ما يفرح الأشرار والمنافقين، ويشيع الفاحشة بين المؤمنين. وقد قال تعالى: " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ".
ومن نشر الفاحشة بين المؤمنين ما تقوم به بعض المؤسسات، وبتعاون من بعض الآباء وأفراد الأسر من نشر وترويج الأفلام والمسلسلات الهابطة التي تغري بالزنا، وتهون البغاء، وتعلم الأحداث فنون الإجرام وألوان التمرد على سلطة الآباء والحكام.
أيها المسلمون: ومن أخطر أنواع الكلام المذموم الذي يعد من حصائد الألسنة، وتفوح به كثير من مجالس من ينتسبون إلى الخير، ما يشيع في تلك المجالس من القيل والقال التي محصلتها الوقيعة في أعراض الأكابر من العلماء، والتحريض على نزع يد الطاعة من أولي الأمر، وإحداث النفرة والفرقة بين خيرة الإخوان والدعاة إلى الله تعالى، بسبب الخوص في الأحاديث، ونقل الأخبار، ودون وعي وتثبت، مطيتهم في ذلك زعموا، وقالوا، وحدثني من أثق بعلمه، ونحو ذلك من المصادر المهلهلة والتي هي من أسلحة الفتنة التي تخرب الناس، وتشتت الكلمة، وتزرع الضغائن والأحقاد في الصدور، وتفسخ المجالس للمغرضين والمتربصين بهذا المجتمع الآمن الدوائر.
وفي الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه قال: " بئس مطية الرجل زعموا " وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث ". وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع ". ومن كلام بعض أهل العلم: وما كل ما يعلم يقال. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: " إن الشيطان ليتمثل بصورة الرجل، فيأتي القوم يحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون، ويقول الرجل منهم: سمعت رجلاً أعرف وجهه ولا أدري، ما سمعه يحدث ".
وهذا فيه التنبيه على خطر كيد شياطين الإنس والجن، ومن يفعل فعلهم من بسطاء الناس وذوي الأهواء منهم، الذين ينقلون الأخبار المكذوبة، ويصنعون الحوادث الملفقة المفتعلة، ثم يشيعونها في مجالس الناس وكأنها قضايا مسلمة، فيكون لها الأثر السيء في الإرجاف لبعض الناس، وتثبيط همم الآخرين عن الخير، وإساءة الإخوان بعضهم ببعض، وإثارة الفتن، وتخريب الناس، نتيجة حادثة مكذوبة أو خبر مغرض أو نحو ذلك.
ولو تأملت كثيراً مما يحدث في مجالس الناس اليوم تجد كثيراً منه لا سند له صحيح، يعتمد عليه في النقل، وإنما هو بواسطة زعموا، ويقولون، وحدثني من أثق به، وما صح منه. فلا يعرف وجه وقوع الفعل ومناسبة القول حتى يحكم عليه أو له، مع أن كثيراً من الحوادث الصحيحة والأخبار الصادقة لابد أن تترجح المصلحة في روايتها وإشاعتها، وإلا فإن الإنسان يكون معرضاً للوقوع في الغيبة أو النميمة، وينطبق عليه قوله تعالى: " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ".
فاتقوا الله في كلامكم، واحذروا ألسنتكم، لا تشيعوا الفاحشة، ولا تتكلموا بالبهت، ولا تتسببوا في إثارة الفتن وتخريب الأمة، فإن كلامكم مستطر، ومجزيون به يوم العرض الأكبر.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعاً بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.