بين حب الله .. والحب في الله
الخطبة الأولى
الحمد لله ألف بين قلوب المؤمنين فأصبحوا بنعمته إخواناً ، و نزع الغل من صدورهم فكانوا في الدنيا أصحاباً و في الآخرة خلاناً ، أحمده سبحانه و أشكره ، و أتوب إليه و استغفره ، و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبلغني لديه زلفى و رضواناً .
وأشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبده و رسوله تصديقاً به و إيماناً صلى الله و سلم و بارك عليه و على آله و أصحابه و أتباعه على دينه قولاً و عملاً و عدلاً و إحسناً .
أما بعد :
فاتقوا الله أيها المسلمون ، اتقوه حق التقوى ، اتقوه ما استطعتم ، و تقربوا إليه ، أحبوا ربكم من كل قلوبكم .
فمحبته سبحانه منزلة عليا ، و مرتبة عظمى تنافس فيها المتنافسون ، و من أجلها شمر المتسابقون ، و بروح نسيمها تروح العابدون .
محبة الله قوت القلوب ، و قرة العيون عن و بهجة النفوس ، من رزقها ذهب بشرف الدنيا و الآخرة ، و من حرمها فهو في دياجير الظلمات بل في عداد الأموات .
محبة الله دلت عليها الفطر ، و جبلت عليها النفوس ، و أدركتها العقول السليمة ، بل لقد تنزلت بها الكتب ، و دعت إليها الرسل :
" قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " ، " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " .
و كيف لا تدركها العقول ، و لا تقبل عليها الفطر ، و ما من نعمة في الوجود إلا و ربنا مسديها ، و ما من إحسان في الدنيا و الآخرة إلا و مولانا قد أولاه ، و هو الذي يرفع البأساء و يكشف الضراء :
" وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون " . هو أكرم الأكرمين ، و أجود الأجودين ، يعطي قبل أن يسأل ، و يعطي فوق المؤمل ، يشكر القليل من العمل ، و ينميه ، و يغفر الكثير من الزلل و يمحوه ، يحب الملحين إليه ، و من لم يسأله يغضب عليه ، يستر على عبده ، و العبد لا يستر نفسه ، و يرحمه حيث لا يرحم العبد نفسه ، أرسل لهدايته الرسل ، و أنزل من أجله الكتب ، بل ينزل سبحانه كل ليلة و ينادي : " هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له ، هل من داع فاستجيب له " و ذلك كل ليلة .
من أحق بالحب من هذا البر الرحيم ، من أحق بالحمد و من أحق بالذكر و الشكر ، أجود من سئل و أوسع من أعطى .
معاشر الأحبة : هذه المحبة السامية ، و هذا الشرف السامق تغذيه شعب الإيمان ، و تنميه التقلبات بين سراء غامرة و ضراء مدبرة و العيش في مراحل الجهاد و المجاهدة و الصبر و المصابرة .
فربك يحب المتقين ، و يحب المحسنين ، و يحب الصابرين ، و هو يحب التوابين و يحب المتطهرين ، و يحب المتوكلين ، و يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ، و أحب الأعمال إلى الله الصلاة ، و يحب من العمل ما دوام عليه صاحبه ، و يحب أن يؤتى رخصه ، كما يحب أن تؤتى عزائمه .
و هو لا يحب الفساد ، و لا يحب الكافرين ، و لا يحب الظالمين ، و لا المعتدين ، و لا يحب من كان مختالاً فخوراً و لا من كان خواناً أثيماً .
حب الله لا يناله إلا المصطفون من عباده . و التلذذ يحب الله ليس متاحاً لكل أحد ، و لكنه فضل و سمو يتخير الله له من يشاء :
" يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم " .
نعم أيها الأحباب " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " من ذا يستطيع أن يفرض على الله حبه ـ تعالى الله ـ و لكنه يمن بحبه على من يشاء .
غير إنه سبحانه لا يضيع زلفى من تودد إليه ، و هو يعطي من تعرض لعطائه ، و يهب الخير للأيدي الممتدة إليه .
أما من أدبر و تولى فلا نصيب سوى الطرد و الهوان .
فحب الله لا يرتبط بعواطف شخصية ، و لا بروابط نسبية ، و لا بعلائق مادية ، و لكنه يعلو و يهبط بمقدار القرب و البعد من المولى عز و تبارك : " إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح " .
أيها الأخوة في الله : و حين يرزق العبد محبة الله فإن ذلك ينعكس على سلوكه ليصطبغ بحياته التزاماً بالأوامر ، و بعداً عن النواهي ، يحب ربه ، و يتلقى أوامره بالحفاوة و الإعظام و التنفيذ ، ولاؤه لله ، يعيش في أرض الله سلماً لأوليائه حرباً على أعدائه : " أشداء على الكفار رحماء بينهم " ، " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " .
حين يرزق العبد حب الله فإنه يثمر عنده الحب في الله ، فمن حلاوة الإيمان " و أن يحب المرء لا يحبه إلا الله " .
إذا قوي حب العبد لربه فتراه يحب كل من يقوم بحق الله في علم أو عمل ، تراه يحب كل من فيه صفة مرضية عند الله : " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " .
هذه الثمرة من الحب ليست شعاراً أجوف لكنها إخاء روحي و تعاقد على الوفاء يتعاليم الإسلام و تحكيم شرائعه و إبلاغ هدايته .
في مجتمع الحب في الله الملتقى على شعائر الله يقوم إخاء العقيدة مقام إخاء النسب ، صلتة النسب محكومة بحقائق الإسلام و مناهجه و مباهجه : " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم " .
أواصر الحب الصادق في الله هي التي جمعت أبناء الإسلام ، و أقامت دولته ، ورفعت رايته ، و فيها جاهدت الأمة و صبرت و صابرت .
إخاء خالص الله و ود قائم على الإيمان بالله ، و ترابط يشده حبل الله : " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا " " هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين " ، " وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم " .
تلونت عواطفهم الإنسانية بالحب في الله و البغض في الله حب و بغض تبعاً لما يصيب الإسلام و أهله من خير أو شر يحبون أهل التقوى الصلاح ، و يكرهون أهل الإلحاد و المبتدعات ، يمنعون الأذى عن إخوانهم ، يردون عنهم عاديات الزمن .
مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم احتضنت الإسلام و أهل الإسلام على حب الله ، فكان الإيثار و السماحة و الندى ، و المساواة و المواساة ، فشاع الحب و نبت الاحترام و سادت التضحيات : " والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " إنه إخاء الحب في الله و ليس إخاء المنافع الزائلة و الغايات الدنية .
أيها الأخوة : و هذا الحب كما يكون بين الإخوان و الرفاق المتعاصرين فإنه يحمل طابع الاستمرار و البقاء ما في الإيمان ، فلا يقتصر هذا الحب على أبناء الجيل ، و لكنه حب الخلف الصالح للسلف الصالح ، فتحس الأمة برابطة علوية تجمعها بسلفها و تشدها إليها : " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " .
كم من إمام نحرير و عالم فذ و عابد صالح لم نر أشخاصهم و لا صورهم طويت قلوب الأمة على محبتهم و الحماس لهم و لأمثالهم و للمجيد من تاريخهم ، و ما ذلك إلا لأن الأبصار و البصائر تعلقت بمواهبهم الجليلة ، و خصائصهم المتميزة ، و صلنا بهم الدين و وثقنا بهم الحب في الله لا نريد منهم و لا يريدون منا جزاء و لا شكوراً .
ها هو الإمام البخاري يضيق عليه بلده فيخرج منها فينشر علمه في بلاد الله الواسعة و كان الجزاء الألهي أن أبا عبد الله البخاري كرمته الأمصار و الأعصار منذ ظهر إلى بقية الدهر : " هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب " و قبله شيخه الإمام أحمد بن حنبل خرجت بغداد كلها وراء جنازته .
تلتف الأمة في سلفها و خلفها حول رجالات الإسلام من الأئمة و الفقهاء و العباد الصلحاء الذين أناروا الطريق بالعلم و الصلاح و الجهاد ، و حببوا إلى الناس ربهم و شرحوا صدورهم بذكره .
موقف الحب هذا ـ أيها الأخوة ـ ليس الأجيال السلف من الخلف و لكنه محفوظ كذلك لأجيال المستقبل : " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " و نبيكم محمد صلى الله عليه و سلم يقول : " وددت أنا قد رأينا إخواننا قالوا : أو لسنا إخوانكم يا رسول الله ؟ قال : أنتم أصحابي ، و إخواني الذين لم يأتوا بعد " .
هذه بعض آثار هذه المحبة في الدنيا و على الناس ، أما في الآخرة عند المليك المقتدر فاسمعوا هذه الكوكبة من مشكاة النبوة ، أخرج مسلم و غيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه" عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : يقول الله تعالى يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي . و جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله : رجل يحب القوم و لما يلحق بهم ؟ فقال عليه الصلاة و السلام : المرء مع من أحب " . و في الحديث المتفق عليه : من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : رجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك و تفرقا عليه .
و إن من عباد الله أناساً ماهم بأنبياء و لا شهداء يغبطهم الأنبياء و الشهداء بمكانهم من الله ، قالوا : يا رسول الله تخبرنا من هم . قال : هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ، و لا أموال يتعاطونها " .
اللهم إنا نسألك حبك و حب من يحبك ، و عملاً يبلغنا حبك ، اللهم ارزفنا حبك و حب من يحبك ، اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله قوة لنا فيما تحب ، و ما صرفت عنا مما نحب فاجعله انصرافاً إلى ما تحب ، اللهم آمين يارب العالمين .
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب و يرضى ربنا ، أحمده سبحانه و أشكره ، تحبب إلى عباده بالنعم ، و قام بأرزاقهم ، فما لأحد منهم عنه غنى ، أشهد ألا إله إلا الله و حده لا شريك له ، له البقاء و لمن سواه الفنا ، و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبده و رسوله إلى الهدى و دين الحق أرشدنا ، و على المحجة البيضاء أوقفنا ، صلى الله و سلم و بارك علينه و على آله و أصحابه ساروا على نهجه و تقربوا إلى الله بحبه فكانوا أئمتنا و قدوتنا ، و التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الفنا .
أما بعد :
فاتقوا الله أيها الناس ، و احبوا ربكم لما يغذوكم من نعمه و ينزل لكم من رزقه .
و اعلموا أن من تمام محبته محبة ما يحبه و كراهة ما يكرهه ، فمن أحب شيئاً مما يحبه الله لم يكمل توحيده و لم يتمحض تصديقه ، و كان فيه من الشراك الخفي بحسب ما كرهه مما أحبه الله و بحسب ما أحبه مما كرهه الله .
و اعلموا أن من أعظم الأسباب الجالبة الله قراءة القرآن بالفهم و التدبر ، و التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض .
و في الحديث القدسي : ما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه ، و لا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه .
و داوموا ذكره باللسان و القلب و العمل ، و الزموا الجد و الصدق في تقديم ما يحبه ربكم على ما تحبه أنفسكم في الظاهر و الباطن . و أديموا النظر في نعم الله و إحسانه ، و كرمه و جوده ، و أظهروا الصدق المناجاة و تخير الأوقات الفاضلة ، و مجالسة الصالحين ، و مجانبة أسباب البعد و الحرمان من المعاصي و المنكرات و قرناء السوء .
فكل هذه مما يجلب محبة الله و يوصل إلى قربه . فاتقوا الله رحمكم الله .