حلاوة الإيمان
الخطبة الأولى
لحمد لله ملأ بنور الإيمان قلوب أهل السعادة ، فأقبلت على طاعة ربها منقادة ، فحققوا حسن المعتقد و حسن العمل و حسن الرضا و حسن العبادة . أحمده سبحانه و اشكره و قد أذن لمن شكره بالزيادة ، و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبلغ صاحبها الحسنى و زيادة . و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبده و رسوله المخصوص بعموم الرسالة و كمال السيادة صلى الله و سلم و بارك عليه و على آله و أصحابه و أتباعه إلى يوم الدين .
أما بعد :
فيا أيها الناس أوصيكم و نفسي بتقوى الله عز و جل فتقواه خير زاد ، و هي نعم العدة ليوم الميعاد .
أيها المسلمون : يجد المتبصر في أمور الحياة و شؤون الأحياء يجد فئات من الناس تعيش ألواناً من التعب و الشقاء ، و تنفث صدورها أنواعاً من الضجر و الشكوى ، ضجر و شقاء يعصف بالأمان و الإطمئنان ، و يفقد الراحة و السعادة ، و يتلاشى معه الرضى و السكينة . نفوس منغمسة في أضغانها و أحقادها و بؤسها و أنانيتها ، و يعود المتبصر كرة أخرى ليرى فئات من الناس أخرى قد نعمت بهنيء العيش و فيوض الخير ، كريمة على نفسها ، كريمة على نفسها ، كريمة على الناس ، طيبة القلب سليمة الصدر طليقة المحيا . ما الذي فرق بين هذين الفريقين ؟ و ما الذي باعد بين هاتين الفئتين ؟ إنه الإيمان و حلاوة الإيمان .
ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً و بالإسلام ديناً و بمحمد صلى الله عليه و سلم رسولاً . بذلك أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة و السلام كما أخبر أن ثلاثاً من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما ، و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، و أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار .
أيها الأخوة : للإيمان طعم يفوق كل الطعوم ، و له مذاق يعلو على كل مذاق . و نشوة دونها كل نشوة .
حلاوة الإيمان حلاوة داخلية في نفس رضية و سكينة قلبية تسري سريان الماء في العود ، و تجري جريان الدماء في العروق .
لا أرق و لا قلق و لا ضيق و لا تضييق بل سعة و رحمة ، و رضى و نعمة : " ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما " و " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " .
الإيمان بالله هو سكينة النفس ، و هداية القلب ، و هو منار السالكين و أمل اليائسين ، إنه أمان الخائفين و نصرة المجاهدين .
و هو بشرى المتقين و منحة المحرومين . الإيمان هو أب الأمل و أخ الشجاعة و قرين الرجاء . إنه ثقة النفس و مجد الأمة و روح الشعوب .
و أول منافذ الوصول إلى حلاوة الإيمان و طعم السعادة الرضى بالله عز و تبارك رباً مدبراً فهو القائم على كل نفس بما كسبت ، رحمن الدنيا و الآخرة و رحيمهما ، قيوم السموات و الأرضين ، خالق الموت و الحياة و الأكوان . مسبغ النعم ، يجيب المضطر إذا دعاه و كاشف السوء . أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، سوى الإنسان و نفخ فيه من روحه ، أطعمه من جوع ، و كساه من عري ، و أمنه من خوف ، و هداه من الضلالة ، و علمه من بعد جهالة .
إيمان بالله تستسلم معه النفس لربها ، و تنزع إلى مرضاته ، تتجرد عن أهوائها و رغباتها ، تعبده سبحانه و ترجوه و تخافه و تتبتل إليه ، بيده الأمر كله ، و إليه يرجع الأمر كله ، رضي بالله و يقين يدفع العبد إلى أن يمد يديه متضرعاً مخلصاً : " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك و بمعافاتك من عقوبتك و بك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " .
و مذاق الحلاوة الثاني ـ أيها الأخوة ـ الرضي بالإسلام ديناً ، دين من عند الله أنزله على رسوله و رضيه لعباده و لا يقبل ديناً سواه .
اسمعوا إلى هذا التجسيد العجيب للرضى بدين الله ، غضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه على زوجته عاتكة فقال : لها : و الله لأسوأنك . فقالت له : أتستطيع أن تصرفني عن الإسلام بعد إذ هداني الله إليه ؟ فقال : لا . فقالت : أي شيء تسوءني إذن ؟ ؟ ؟ الله أكبر إنها واثقة مطمئنة راضية مستكينة ما دام دينها محفوظاً عليها حتى و لو صب البلاء عليها صباً .
بل إن إزهاق الروح مستطاب في سبيل الله على أي جنب كان في الله المصرع . الإسلام منبع الرضاء و الضباء و مصدر السعادة و الاهتداء .
و مذاق الحلاوة الإيمانية الثالث : الرضى بمحمد صلى الله عليه و سلم رسولاً و نبياً . محمد الناصح الأمين و الرحمة المهداة و الأسوة الحسنة فلا ينازعه بشر في طاعة ، و لا يزاحمه أحد في حكم : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم "
الرضى بمحمد صلى الله عليه و سلم اهتداءاً واقتداءاً . و بسنته استضاءه و عملاً .
أيها الإخوة : إذا صح الإيمان و وقر في القلب فاض على الحياة ، فإذا مشى المؤمن على الأرض مشى سوياً ، و إذا سار سار تقياً ، ريحانة طيبة الشذى ، و شامة ساطعة الضياء . حركاته و سكناته إيمانية مستكينة : " فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، و بصره الذي يبصر به ، و يده التي يبطش بها ، و رجله التي يمشي عليها ، و لئن سألني لأعطينه ، و لئن استعاذني لأعيذنه " .
من ذاق حلاوة الإيمان طاب عيشه ، و عرف طريقه ، و من عرف طريقه سار على بصيرة ، و من سار على بصيرة نال الرضى و بلغ المقصد .
نعم يمضي في سبيله لا يبالي بما يلقى فبصره و فكره متعلق بما هو أسمى و أبقى " يا أيتها النفس المطمئنة " ، " ارجعي إلى ربك راضية مرضية " ، " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه " .
هل رأيت ـ رحمك الله ـ زيا و منظراً أحسن و أجمل من سمت الصالحين ؟ ؟ .
هل رأيت ـ وفقك الله ـ تبعاً و نصباً ألذ من نعاس المتهجدين ؟ ؟
و هل شاهدت ـ حفظك الله ـ ماء صافياً أرق و أصفى من دموع النادمين على تقصيرهم و المتأسفين ؟ ؟ ؟ .
و هل رأيت ـ رعاك الله ـ تواضعاً و خضوعاً أحسن من انحناء الراكعين و جباه الساجدين ؟ ؟ ؟
و هل رأيت ـ عافاك الله ـ جنة في الدنيا أمتع و أطيب من جنة المؤمن و هو في محراب المتعبدين ؟ ؟ إنه ظمأ الهواجر و مجافاة المضاجع فيا لذة عيش المستأنسين ؟ ؟ ؟ .
هذه حلاوتهم في التعبد التحنث .
أما حلاوتهم في سبح الدنيا و كدحها . فتلك عندهم حلاوة إيمانية تملأ الجوانح بأقدار الله في الحياة . اطمئنان بما تجري به المقادير ، رضى يسكن في الخواطر فيقبل المؤمن على دنياه مطمئناً هانئاً سعيدًا
رضياً . مهما اختلفت عليه الظروف و تقلبت به الأحوال و الصروف . لا ييأس على ما فات و لا يفرح بطراً بما حصل . إيمان و رضى مقرون يتوكل و ثبات ، يعتبر بما مضى و يحتاط للمستقبل و يأخذ بالأسباب ، لا يتسخط على قضاء الله ، و لا يتقاعس عن العمل ، يستفرغ جهده من غير قلق ، شعاره و دثاره : " وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب " موقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، و ما أخطأه ، و لم يكن ليصيبه . لو اجتمع أهل الأرض و السماوات على نفعه بغير ما كتب له فلن يستطيعوا ، و لو اجتمعوا على منعه عما قدر له فلن يبلغوا . لا يهلك نفسه تحسراً عن و لا يستسلم للخيبة و الخذلان . معاذ الله أن يتلمس الطمأنينة في العقود و الذلة و التخاذل و الكسل ، بل كل مسارات الحياة و مسالكها عنده عمل و بلاء و خير و عدل و ميدان شريف للمسابقات الشريفة . جهاد و مجاهدة في رباطة جأش ، و توكل و صبر . ظروف الحياة و ابتلاءاتها لا تكدر له صفاءاً و لا تزعز له صبراً عجباً لأمر المؤمن أمره كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، و إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ، و لا يكون ذلك إلا لمؤمن .
بالإيمان الراسخ يتحرر المؤمن من الخوف و الجبن و الجزع و الضجر : " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " .
" لا مانع لما أعطى ربنا و لا معطي لما منع و لا ينفع ذا الجد منه الجد " .
و " ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " .
حلاوة و رضا تقوم في حياة الكفاح على هذه الأصول و المبادئ ، إذا أعطي تقبل و شكر ، و إذا منع رضى و صبر ، و إذا أمر ائتمر ، و إذا نهي ازدجر ، و إذا أذنب استغفر .
بهذا الإيمان و بهذا المذاق ينفك المؤمن من ربقة الهوى و نزعات النفس الأمارة بالسوء و همزات الشياطين و فتن الدنيا بنسائها و مالها و قناطيرها و مراكبها و سائر مشتهياتها و زينتها ، سعادة و حلاوة ملؤها القناعة . سعادة و حلاوة يتباعد بها عن الشح و التقتير و البخل و الإمساك ، و ينطلق في معاني الكرم و الإيثار و العطاء .
إن في حلاوة الإيمان ترطيباً لجفاف المادة الطاغية وحداً من غلواء الجشع و الجزع ، و غرساً لخلال البر و المرحمة . و من ثم تتنزل السكينة على القلوب و تغشى الرحمة النفوس :
" أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " .
" أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه " .
" فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى " .
" من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " .
الخطبة الثانية
الحمد لله لا مانع لما أعطى ، و لا معطي لما منع أحمده سبحانه و أشكره فضله مرتجى و في عفوه الطمع ، و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له منح الخير و للمكروه دفع ، و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبده و رسوله دعا إلى الحق و جاهد في الله و أشاد منار الإسلام و رفع ، صلى الله و سلم و بارك عليه و على آله و أصحابه أهل الإيمان و الرضى و التقى و الورع و التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الفزع .
أما بعد :
فاتقوا الله رحمكم الله فالسعيد من خاف يوم الوعيد و راقب ربه و اتقاه فيما يبدئ و ما يعيد .
أيها المسلمون : من ضعف إيمانه يضج من البلاء لأنه لا يعرف المبتلي ، و يخاف السفر لأنه لا زاد له ، و يضل الطريق لأنه لا دليل معه .
فيالخسارة المستوحشين : " فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله " .
من فقد الإيمان انفرط أمره و انحل عقده ، يقول و يفعل من غير رقيب ، و يسير في دنياه من غير حسيب ، سيرته مطبوعة بطابع الأثرة و الأنانية ، معدوم الثقة بنفسه و بالناس يحل التدابر عنده محل التراحم ، و التفرق محل التعاون .
بغير الإيمان و حلاوة الإيمان يعود الناس وحوشاً ضارية ، يقطعون حبالهم مع الله و مع الناس ، انقادوا لنفوسهم الأمارة بالسوء و اجتالتهم شياطين الجن و الإنس .
و الحضارة المعاصرة بمادياتها المغرقة و تقنياتها الجافة خير شاهد على أن السعادة و الحلاوة لا تحققها شهوات الدنيا و لا مادياتها ، لا ترى المرء فيهم إلا منهوماً لا يشبع ، شهواته مستعرة و رغباته متشبعة ، يجره الحرص على الخصام فيشقى و يشقي ، و يغرس العداوة و العدوان حيثما حل و ارتحل .
لقد أورثتهم حياتهم هذه أمراضاً نفسية ، و اضطرابات اجتماعية ، و تقلبات فكرية ، كان مفزعهم إلى المخدرات و المهدئات و العيادات النفسية و العلاجات العصبية " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى " ، " ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء " .
ألا فاتقوا الله رحمكم الله و آمنوا بربكم و أطيعوا رسولكم و استمسكوا بدينكم ( رضينا بالله رباً و بالإسلام ديناً و بمحمد صلى الله عليه و سلم رسولاً و نبياً ) .