في التربية والتعليم
الخطبة الأولى
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، كما يحب ربنا و يرضى ، و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الحمد في الآخرة و الأولى . و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبده و رسوله . بعثه بالحق و الهدى ، بعثه في الأميين ، يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة ، و قد كانوا قبله في ضلال و عمى ، صلى الله عليه و سلم و بارك عليه ، و على آله و أصحابه الذين حازوا ميراث الأنبياء ، و التابعين و من تبعهم بإحسان و سار على نهجهم و اقتفى .
أما بعد :
أيها المؤمنون ، إن هذه الأمة ، أمة محمد صلى الله عليه و سلم خير أمة أخرجت للناس . الصدارة منزلتها ، و القيادة مرتبتها " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " . إنها مصدر الأصالة ، و منبر التوجيه ، و منار التأثير ، هكذا أراد الله لها إن هي استقامت على النهج ، و قامت بالحق : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " .
أمة رفع الله من شأنها ، ليس لها أن تنحدر إلى مستوى التقليد و التبعية ، تقبع في مؤخرة القافلة يصيح بها كل ناعق .
إن أهل الإسلام ـ أيها الإخوة ـ هم معقل الحق ، و مأزر الإيمان . رسالتم عالمية ، أكرمهم الله بها ، وحملهم أمانة المحافظة عليها ، و تبليغها في كل عصر ، و في كل مصر .
و بنظرة فاحصة في واقع الأمة في ناشئتها و أبنائها ، يتبين أن الأمة ـ أي أمة ـ إنما تبقى محافظة على كيانها ، مدركة لمسئولياتها ثابتة في موقعها ، حين يربى صغارها ليكونوا ورثة صالحين للإسلام ، أمناء على الميراث ، يصاغون في قوالب عقائد الأمة ، و مناهج حياتها ، عليها تتربى ، و من أجلها تكافح ، و من ثم تنقلها صافية إلى الأجيال المتعاقبة .
و من هنا أمة الإسلام ، فإن التربية لباس و دثار يفصل على قامة الشعوب ، منبثقاً من عقائدها ، منسجماً مع أهدافها و آدابها .
تصبغ العلوم بصبغة الإيمان ، و تؤخذ العقول بميزان الدنيا و الآخرة ، توضع الأشياء في مواضعها ، يفرق بين الوسائل و الغايات .
إن مناهج التربية و طرائق العلوم ، يجب أن تكون قائدة إلى الإيمان ، قاصدة إصلاح الأنفس ، و تهذيب الأخلاق .
إن مظاهر القوة المادية وحدها لا تغنى شيئاً ، إذا تداخلت في العقول الثقافات المتناقضة ، و العلوم المتنافرة ، فتفرقت بطلابها السبل ، و تنازعتها التيارات و الأهواء .
ليس مقياس النجاح مجرد معرفة القراءة و الكتابة ، و ليس دليل التفوق كثرة دور العلم و أفواج الخريجين .
إن كثيراً من البلاد الإسلامية في عصورها المتأخرة خسرت أكثر مما ربحت ، حين ظنت أن مبادئ التربية و أصول التعليم تستورد كما تستورد البضائع و الصنائع ، و ضلت حين ظنت أنها تقايض في معاملات تجارية ، لتكسب علماً أو تمحو أمية .
و إن أخطاء كبرى تولدت في بلدان الشرق حين مجدت التعليم ، لمجرد التعليم ، حين مجدته مقطوعاً عن غاياته و أهدافه ، و مصادره ، لقد ظهر مسخ و تشويه للثقافة و التربية و التعليم . إنها أخطاء جعلت كثرى كاثرة يغضون النظر عن واقع أليم ، و صورة منكرة ، و عيوب فاضحة في بعض الطبقات المثقفة المتعلمة انقلبت عندهم الموازين ، فعظموا المتعلم المنحرف ذا الاتجاهات المريبة ، و قدموه على الكريم المستقيم ، و لو قل نصيبه من التعليم .
امتدحوا عصراً كثر فيه المتعلمون ، و عموا عما انتشر معه من الشك في المبادئ الصحيحة ، و الحقائق الواضحة ، و البدهيات الجلبة ، و ما سادفية من التفسخ الخلقي ، و فقدان الحمية الدينية ، بنيت فيه الشاهقات من المباني على أنقاض الأخلاق و الفضيلة استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير .
عجزوا أن يميزوا بين هذا و بين عصور سابقة ، توافرت فيها الفضائل ، و سمت فيها الأخلاق ، و تواصلت فيها الأرحام ، في استقرار نفسي ، و طمأنينة قلبية على قلة المتعلمين و ندرة المثقفين . و رحم الله مسروقاً حين قال : بحسب امرئ من العلم أن يخشى الله و بحسب امرئ من الجهل أن يعجب بعلمه .
أيها الإخوة ، لم يكن هذا الانقلاب في المفاهيم ، و الاختلال في الموازيين ، لولا خضوع كثير من المجتمعات المعاصرة للبريق الخداع الذي رفع من شأن التعليم و شهاداته ، لمجرد أنها شهادات ، أو لأن صاحبها تلقاها من هنا ، أو نالها من هناك .
أيها المسلمون ، لا فائدة في علم لم يكس بخلق ، و لا جدوى من تربية لا تثمر عملاً صالحاً ، لا خير في معارف تورث بلبلات فكرية ، ولا نفع في ثقافات تشكك في الصحيح من المعتقدات . . تستخف بالدين ، و مستوثقات التاريخ ، و يجاهر أصحابها بالتطاول على عظماء الأمة ، و النيل من سلفها الصالح .
كيف يكون مستقبل أمة تنبت فيها مثل هذه النوابت ، و يرضع أبناؤها من هذا الكدر ؟ ! .
و من هنا كان لزاماً ـ أيها الإخوة ، أيها المربون ـ النظر الجاد في واقع التربية و مناهجها ، فلا ترسم خطوة ، و لا يوضع منهج ، إلا مع الإدراك الجازم أن هذه الأمة ، و هذا النشء هم غرس المصطفى محمد صلى الله عليه و سلم و ثمره دعوته و جهاده ، و أحفاد أصحابه المؤمنين ، رضوان الله عليهم أجمعين . تنسجم المناهج في كل هذا و تعيش في ظله ، لتبقى محصنة بدينها ، متماسكة بقوته ، مرتيطة بحبله ، بعيدة عن كل فوضى فكرية أو صرعات مذهبية ، تنقى من عوامل الفساد ، و أسباب الزيغ و الإلحاد ، و اتجاهات الزندقة و التحلل .
من لم تطب نفسه بهذا الدين ، و لم ينشرح صدره لنبوة محمد صلى الله عليه و سلم و إمامته ، و آمن بفلسفات أجنبية منحرفة ، فليس له محل بين المسلمين ، و لا يحل أن تتاح له الفرص ، أو تهيأ له الوسائل لتوجيه العقول ، و تربية النفوس ، و لا يجوز أن تقدم له فلذات الأكباد ، ليفسد فطرها ، و يعبث بعقولها ، و يسلخها من عقيدتها .
إن المدارس و دور التعليم في كافة مستوياتها هي محاضن الجيل ، و هي الحصن الحصين تكمن فيها حماية الأمة ، و الحفاظ على أصالتها و بقائها و نقائها .
إن هذه الدور تحوي أثمن ما تملكه الأمة ، تحتضن الثروة البشرية ، رجال الغد وجيل المستقبل ، ثروة تتضاءل أمامها كنوز الأرض جميعها .
و شر ما يطرأ على هذه المعاقل و الحصون أن تؤتى من قبل من وكل إليهم رعايتها و صيانتها ، و تكون الخيانة العظمى حين يفتحون الأبواب الخلفية و غير الخلفية ، ليسلل المتلصصون ليلاً أو نهاراً في غفلة من الحماة الصادقين ، فتقع الواقعة و تحل الكارثة .
فاتقوا الله أيها المؤمنون ، اتقوا الله يا رجال التربية ، و اعلموا أنه إذا حفظت العقول و الأخلاق ، و أحيطت التربية بسياج الدين المتين ، و ربطت برباط العقيدة الوثيق ، فلسوف تصح المناهج ، و ينفع التعليم ، و تثبت الأصالة ، و يتضح السبيل ، و ترتفع الراية و يحصل التمكين . و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون .
نفعني الله و إياكم بهدي كتابه ، و بسنة نبيه محمد صلى الله عليه و سلم ، و هدانا صراطه المستقيم ، و جنبنا طريق أصحاب الجحيم .
و أقول قولي هذا ، و أستغفر الله لي و لكم من كل ذنب و خطيئة ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، و الشكر له توفيقه و عظيم امتنانه ، و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه . و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبده و رسوله ، الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه و سلم و بارك عليه ، و على آله و أصحابه و أتباعه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
أيها المؤمنون ، يظن بعض الناس أن قوة الأمم تكمن فيما لديها من آلات القتال و عدده ، أو فيما لديها من القدرة على تصنيعه .
و حقيقة الأمر إن ذلك لا يكون إلا إذا وجد من وراء ذلك نهج قويم و خلق متين ، يجمع أهله ، و يشد بعضهم إلى بعض ، و يمنع عناصر الفساد و أسباب الفرقة و الخلاف من أن تتسرب إلى الصفوف . و خير جامع و أعلى مصدر للخلق هو دين الله الذي يجمع على التواد و التراحم . يكبح جماح الشح في النفوس و ترتفع به الهمم .
أنه الدين الذي يوحد العادات و الأمزجة ، فيجتمع الناس فيما يحبون و فيما يكرهون و فيما يألفون و فيما يعافون ، فيما يستحسنون و فيما ينفرون ، على ألوان من غذاء الأبدان و القلوب .
فاتقوا الله أيها الإخوة في الله . و عوا مسئولياتكم ، فإن فلاح الأمة في صلاح أعمالها . و صلاح أعمالها في صحة علومها . و التربية الصحيحة الجارية على السنن المستقيمة تنتج رجالاً أمناء أوفياء ذوي نصح و إخاء .