في بناء الشباب
الخطبة الأولى
الحمد لله أعاد و أبدى ، و أجزل علينا النعم و أسدى . . لا هادي لمن أضل ، و لا مضل لمن هدى ، و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبده و رسوله ، أكرم به نبياً ، و أنعم به عبداً ، صلى الله و سلم و بارك عليه ، و على آله و صحبه كانوا أمثل طريقة و أقوم و أهدى ، و التابعين و من تبعهم بإحسان .
أما بعد : أيها المسلمون ، زينة الحياة الدنيا ، و عدة الزمان بعد الله شباب الإسلام الناشئون في طاعة ربهم ، لا تكاد تعرف لهم نزوة أو يعهد عليهم صبوة . . يستبقون في ميادين الصالحات ، أولئك لهم الحياة الطيبة في الدنيا ، و لهم الظل الظليل يوم القيامة ، يوم لا ظل إلا ظل المولى .
و لئن تطلعت الأمة لإصلاح ناشئتها ، ورغبت في أن تقر عينها بصلاحهم ، فعليها أن تهتم بتربيتهم ، و تسليحهم بسلاح الإيمان و تحصينهم بدروع التقوى ، و أخذهم بجد و قوة إلى العلم النافع و العمل الصالح .
إن العناية بالنشء مسلك الأخيار ، و طريق الأبرار ، و لا تفسد الأمة و تهلك في الهالكين إلا حين تفسد أجيالها ، و لا ينال الأعداء من أمة إلا إذا نالوا من شبابها و صغارها .
وفي كتاب الله إخبار عن أنبياء الله حين توجهوا إلى ربهم بصلاح ذرياتهم من قبل و جودهم و من بعد مجيئهم فمن دعاء زكريا عليه السلام : " رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " و لا خير في ذرية إن لم تكن طيبة و يقول إبراهيم عليه السلام : " رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " و في دعاء له آخر : " رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي " و كل صالح من عباد الله يبتهل إلى ربه : " رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي " .
من الشباب ينشأ العلماء العاملون ، و الجنود المجاهدون ، و فيهم الصناع المحترفون ، إذا صلحوا سعدت بهم أمتهم ، و قرت بهم أعين آبائهم و أمهاتهم ، و امتد نفعهم و حسنت عاقبتهم : " جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " .
و لقد رسم النبي صلى الله عليه و سلم فيما رسم منهجاً واضحاً في وصايا وجهها لشباب الأمة المحمدية . . ممثلة في ابن عمه الغلام عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ـ حيث قال له : " يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، و إذا استعنت فاستعن بالله ، و اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، و إن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف " .
أن أول لبنة في بناء الشباب لبنة العقيدة ، و رسوخ الإيمان ، و صدق التعلق بالله وحده ، و الاعتماد عليه . إن أولها حفظ الله بحفظ حقوقه و حدوده ، و من ثم الاستعانة به وحده في الأمور كلها ، و التوكل عليه ، و اليقين الجازم بأن بيده سبحانه الضر و النفع .
يأتي كل ذلك ـ أيها الإخوة ـ ليكون دافعاً للشباب ، و هو في فورته و طموحه و تكامل قوته ، ليكون قوي العزيمة عالي الهمة .
و إن شباب الإسلام اليوم بحاجة إلى المعرفة التامة بالعزائم من الأمور ، و العالي من الهمم .
إن قوي العزيمة من الشباب ـ أيها الشباب ـ من تكون إرادته تحت سلطان دينه و عقله ، ليس عبداً لشهواته ، فتعس عبد الدينار و عبد الدرهم .
و من صرامة العزيمة و علو الهمة . . إن يفرغ الفؤاد عن الشهوات القريبة ، و العواطف السريعة .
اسمعوا إلى صقر قريش عبد الرحمن الداخل في قصة حفظها لنا التاريخ ، يقول التاريخ :
حينما عبر هذا الصقر البحر أول قدومه على الأندلس . . أهديت له جارية بارعة الجمال . . فنظر إليها ، و قال : إن هذه من القلب و العين بمكان ، و إن أنا شغلت عنها بما أهم به ، ظلمتها و إن أنا اشتغلت بها عما أهم به ، ظلمت همتي . . ألا فلا حاجة لي بها . . ثم ردها إلى صاحبها .
أيها الشباب : إن الشهوات و العواطف ، و حب الراحة و إيثار اللذات . . هو الذي يسقط الهمم ، و يفتر العزائم . . فكم من فتيان يتساوون في نباهة الذهن ، و ذكاء العقل ، وقوة البصيرة ، و لكن قوي الإرادة فيهم ، و عالي الهمة منهم ، و نفاذ العزيمة فيهم هو الكاسب المتفوق . . يجد ما لا يجدون ، يبلغ من المحامد و المراتب ما لا يبلغون .
بل إن بعض الشباب قد يكون أقل إمكانيات ، و أضعف وسائل ، و لكنه يفوق غيره بقوة الإرادة ، و علو الهمة ، و الإصرار على الإقدام .
و إنه لحقيق بالرجال القوامين على التربية أن يعطوا هذا الدرس مكانه من التوجيه . . من أجل بناء صروح من العز شامخة . إن لم يكن ذلك ، فقد ظلمت الأمة نفسها ، و خسرت أجيالها ، و هضمت حق دينها ، و أضاعت رسالتها : " يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا " و ما اقترن العزم الصحيح مع التوكل الوثيق على من بيده ملكوت كل شيء إلا كانت العاقبة فوزاً و نجاحاً : " فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين " .
و إن من مظاهر ضعف الهمم في التعليم و التوجيه ، و من بخس حق العلم و المعرفة أن يطلب الفتى العلم لينال به رزقاً ، أو ينافس به زميلاً حتى إذا أدرك الوظيفة ، أو فاز على الزميل أخلد إلى الراحة ، و نسى العلم ، و أضاع المعرفة ، و تنحى عن الطلب و إنما يرتفع رأس الأمة و يظهر عزها بهمم أولئك الذين يقبلون على العلم بجد و صبر و ثبات ، و لا ينقطعون عن التحصيل و الاستزادة إلا حين ينقطعون عن الحياة .
و العلوم ـ أيها الإخوة ـ ما وضعت إلا لتهدي إلى العمل النافع ، فلا شرف لها في نفسها ، و إنما شرفها بما يترتب عليها من عمل صالح ، و أثر حسن .
فالفقيه من يجد في علمه ما يعرف به أحكام الوقائع و النوازل .
و كيف تكون المفاخرة بفتيان درسوا من العلوم التجريبية ما درسوا ، ثم لم ينفعوا بلادهم في معامل و لا مصانع تكون بها أمتهم رائدة إلى الصلاح ، و قائدة إلى مناهج الحق و الصواب في كل ميدان ، و في كل مجال .
و من هنا كان لزاماً ـ أيها المسلمون ـ اقتران العلم بالعمل فمن علم خيراً ، فيبادر إلى فعله ، و من علم شراً ، فليحذر الاقتراب منه ، و ما يحيي القلوب بالمعرفة و اليقظة و العلم النافع إلا المبادرة إلى العمل . . فيه تستنير القلوب ، و يصح المسير في دروب الحياة . يقول بعض السلف : كنا نستعين على حفظ أحاديث رسول الله - بالعمل بها .
و يقول بعض الحكماء : إذا أردت الاستفادة من النصائح المكتوبة و المسموعة فجربها و اعمل بها فإنك إن لم تفعل كان نصيبك نسيانها .
إن المعلومات النظرية التي لم ينقلها العمل من دائرة الذهن و الأفكار المجردة ، إلى واقع الحياة لا فائدة فيها ، فالجندي لا تنفعه معلوماته إذا لم يمارسها في الميدان ، و ماذا ينفع الطبيب و كراريسه و آلاته إذا لم يمارسها طباً و علاجاً .
يضم إلى ذلك ـ يا شباب الإسلام ـ العلم بما اقتضته سنة الله ـ سبحانه ـ و حكمته من اختلاف النفوس في استعداداتها و رغباتها و مواهبها . من أجل أن ينتظم الشأن في هذه الحياة . فلربما نشأ وليدان في مهد واحد ، فتختلف ميولهما و اختصاصاتهما في العلوم و المطالب .
و إن لكم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لخير أسوة ، و في توجيه النبي صلى الله عليه و سلم لهم حسب طبائعهم و قدراتهم لأوضح قدوة . فقد اختلفوا في طبائعهم و مهماتهم و أعمالهم و معارفهم . فبلال غير أبي بكر ، و خالد غير أبي ذر ، و ابن عباس غير ابن عمر ، و مصعب غير ابن عوف . كانوا مهاجرين و أنصاراً ، و كان فيهم أصحاب بيعة الرضوان . . فيهم الولاة و الحكام و فيهم العسكريون و القادة ، و فيهم أوعية العلم و الفقه ، و كلهم أبلى في الإسلام بلاءً حسناً ، و كلهم كان على ثغر من ثغور الإسلام فحفظه و صانه .
من أجل هذا ـ أيها الإخوة ـ فلا فرق بين عمل و عمل ، فالأعمال المباحة على كثرتها و اختلافها مطلوبة متأكدة حسب حاجة الأمة إليها ، و بناء حياتها و قوتها عليها . ألا فاعملوا فكل ميسر لما خلق له .
أمة الإسلام مطالبة بالدعوة إلى الله ، مطالبة بإعداد القوة لإرهاب أعداء الله ، بحاجة إلى التكامل و التكافل . إن على كل شاب أن يعلم من العلم ما يقوده إلى حسن العمل ، فيتخذ موقعه المناسب حسب قدرته و موهبته و حاجة الأمة إليه ، و العلم بشئون الدنيا و أمورها مطلوب إذا كان طريقاً لعز أمة الإسلام و قوتها . . حيث الابتكار و الاختراع و التفوق . . فالعزة لله و لرسوله و للمؤمنين .
و احذروا الوقوف عند حدود الأماني ، و الاقتصار على الكلام و المقترحات المجردة . . فذلك يفتح أبواباً مخوفةً من الجدل الطويل ، و الثرثرة القاتلة للوقت و الجهد و المواهب ، و ما الأماني إلا رؤوس أموال المفاليس .
فاتقوا الله جميعاً ـ أيها المؤمنون ـ و الزموا العمل الصالح .
" وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون " .
رب هب لنا من أزواجنا و ذرياتنا قرة أعين ، و اجعلنا للمتقين إماماً .
نفعني الله و إياكم بالقرآن العظيم ، و بهدي سيد المرسلين و هدانا صراطه المستقيم ، و وقانا عذاب الجحيم .
و أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم و لسائر المسلمين من كل ذنب و خطيئة ، فاستغفروه ، إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا و يرضى ، و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الحمد في الآخرة و الأولى ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله المبعوث بالرحمة و الهدى ـ صلى الله و سلم و بارك عليه ، و على آله و صحبه ، و التابعين و من بنهجهم اهتدى .
أما بعد :
فاتقوا الله ـ أيها المؤمنون ـ اتقوا الله أيها الناشئة ، و اعملوا أن للعمر أجلاً ، و الآمال عريضة في بحر لا ساحل له . . فسارعوا إلى العمل الصالح ، و احفظوا لحظات العمر ، و اشغلوا الوقت بما ينفع في العاجل و الآجل .
إن الشباب إن لم ينشغل في مشروعات الخير و الجهاد و المجاهدة و الإنتاج المثمر ، نهبته الأفكار الطائشة ، و عاش في دوامة من الترهات و المهازل .
إن شغل الأوقات و شحنها بالأعمال و الواجبات ، و الانتقال من عمل إلى عمل ، و من مهمة إلى مهمة ، و لو كانت خفيفة ، يحمي المرء من علل البطالة و لوثات الفراغ . و النفس ـ كما قال الإمام الشافعي رحمه الله ـ إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل .
و إن الأمة تتخلص من مفاسد كثيرة ، و شرور عريضة ، لو أنها تحكمت في أوقات الفراغ لأبنائها ، و ليس بالإفادة منها بعد أن توجد ، و لكن بإيجاد ترتيب لا يكون معه فراغ قاتل .
إن مشاعر الخوف و القلق ، و الحقد و الغيرة و الحسد ، لا تندفع إلى النفس الإنسانية . . إلا حينما تكون فارغة غير مشغولة .
و إن توزيع التكاليف الشرعية في الإسلام منظور فيه إلى هذه الحقيقة . إن شرائعه تدور على الجهاد و المجاهدة ، مجاهدة النفس و مجاهدة الناس . فالصلوات الخمس في ترتيبها و توزيعها ، و العبادات الأخرى في واجباتها و نوافلها بدنية و مالية ، و الأذكار بكرةً و عشياً ، قياماً و قعوداً و على المضاجع ، و الحرف و المهن ، و القيام بالحقوق للقريب و البعيد . . كل أولئك جهادات و مجاهدات تستغرق العمر كله لحظةً لحظةً ، لا تبقي فرصة للغفلات و الذهولات .
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ و اعملوا صالحاً ، و سيروا على النهج و أصلحوا في