مقدمة ضرورية لموضوع نهاية العالم مقدمة لا بد منها للحديث عن نهاية العالم
إن الركن الخامس من أركان الإيمان هو الإيمان باليوم الآخر ، وهذا الركن له أهميته الخاصة بين بقية الأركان ، فالقرآن الكريم قد اهتم بالتعريف به ، وبتربية الناس على تصديقه والتفكير فيه والإيمان به والاستعداد له ، بل كثيرا ما يُجمل القرآن الكريم معنى الإيمان كله في الإيمان بهذا الركن ، فيسميه في آياته بالإيمان بالغيب تارة ، والإيمان بالآخرة تارة أخرى ، وكثيرا ما يُقسم الله تعالي به وبحتمية وقوعه ، كما أكثر القرآن أيضا من ذكر أسمائه ، ومن المعلوم أن كثرة الأسماء تدل على عظم المسمى ، ويُصنف القرآن الكريم غالبا في كثير من سوره الناجين والخاسرين بحسب رسوخ إيمانهم بالآخرة من عدمه ، فحديثُ القرآن الكريم وكذا السنة النبوية الشريفة عن عقيدة البعث بعد الموت ، وعن القيامة وأهوالها ، وأماراتها وأشراطها ، حديث طويل ولا يخفي على مسلم أبدا .
ولما كانت الدنيا دار ممر لا دار مقر ، والإنسان سيرحل عنها لا محالة ، طال به الأجل أو قصر ، " فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ " ، وأنه لا بد من نهاية العالم وفناء الكون وقيام الساعة ، ليتحقق وعد الله تعالي للمؤمنين ، وينزل وعيده بالكافرين ، لمّا كان ذلك كذلك : أصبح الإنسان في كل عصر متطلعا وشغوفا بمعرفة موعد نهاية العالم وقيام الساعة ، خاصة وأن الإنسان مفطور على أن يستشرف المستقبل ، ويحاول معرفة ما في غد ، ومن هنا جاء دور النبوات ، فقد أرسل الله تعالي إلى خلقه رسلا مبشرين ومنذرين ، لدلالة الخلق إلى طريقه ، وإلى ما يجب عليهم من عبادة الله وحده واجتناب الطاغوت" وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ " ، وإلى إخبارهم عن يوم القيامة وأهواله وضرورة الاستعداد له ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر .
إن معرفة موعد القيامة أو نهاية الدنيا عموما يُعتبر من الغيب المطلق الذي لا يعلمه إلا الله تعالي ، ولا يؤخذ إلا عن طريق الوحي المعصوم ، ولذا نهى الإسلام أتباعه عن الوقوف على أبواب الكُهان والتردد على العرّافين وسؤالهم ، واعتبر ذلك ضربا من ضروب الكفر بما أُنزل على رسول الله محمد – صلى الله عليه وسلم - ، كما نفي الإسلام قدرة أي مخلوق على إيصال نفع أو ضُر لنفسه أو لغيره إلا بإذن الله تعالي ، وكذلك حرم الإسلام كل صور أو طرق استشراف الغيب البعيدة عن الوحي المعصوم ، وأمر المسلم بأن لا ينشغل بموعد الساعة أو القيامة لأنه مما استأثر الله تعالي بعلمه ، ومما حجبه تعالى عن رسله – عليهم السلام -، وإنما عليه أن ينشغل بما أمره الله تعالي به من عمل صالح ينفع الإنسان في دنياه وأخراه ، واعتبر الإسلام ذلك من العقيدة التي يجب أن يعتنقها المسلم ويتعبد لله تعالي بها ، وعلى هذه العقيدة المتينة ربى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أصحابه ، وعليها عاش السلف الصالح – رضوان الله تعالي عليهم – وماتوا .
ولما كان تمسك المسلم بعقيدته يقوى ويضعُف ، وإيمانه بها يزيد وينقص ، حسب قوة الأمة الإسلامية وضعفها ، وحسب اعتزاز الأمة بنفسها واستقلاليتها أو هزيمتها وذوبانها في غيرها ، فقد دخل على العقيدة الإسلامية في القرون المتأخرة ما ليس منها ، نتيجة ما انتقل من خرافات وأساطير وإسرائيليات من عقائد الأمم الأخرى ، فضعفت العقيدة وانشغل الناس بالأساطير والخرافات .
وعندما تضعف العقيدة في قلوب الناس ويُشَّوش الإيمان بالغيب ، ينحرف مفهوم الساعة وأماراتها عند ضعاف الإيمان وتتشوه معالمها ، فتصبح هذه العقيدة المشوهة مانعة عن الوعي ومثبطة عن السعي والعمل بعد أن كانت دافعة إليهما ، ومن ثم يغرق الناس في ثقافة الانتظار والتواكل ، بعد أن كانوا ينعمون بثقافة النظر والتأمل والاعتبار .
وفي العصر الحديث ومنذ سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924م وتمزيقها من قبل الاستعمار الغربي إلى دويلات صغيرة متفرقة ومتناحرة ، والحديث عن اقتراب نهاية العالم أو الساعة ووقوع أماراتها لم يتوقف ، بل أخذ يتنامى ويزداد ، خاصة بعد ضياع فلسطين والقدس وقيام الكيان الإسرائيلي الغاصب على أرض فلسطين ، وفي العقود الأخيرة الماضية وصل الأمر إلى ما لا يمكن السكوت عليه ، حيث خرجت علينا كتابات متفرقة تُنسب إلى الإسلام ، من دعاة وكُتّاب ومفكرين من مختلف طوائف الأمة الإسلامية ، تتحدث عن أمارات الساعة واقتراب نهاية العالم وفناء الكون ، وتُفسِّرُ النصوص القرآنية والنبوية بتفسيرات متكلفة وغير مقبولة ، مثل قولهم : إن حرب أمريكا على العراق هي معركة النهاية " هرمجدون " ، وأصحاب الرايات السود هم حكومة طالبان بأفغانستان ، والرجل السفيانى هو صدام حسين الرئيس العراقي السابق ، وأمريكا هي المسيح الدجال ، ودابة الأرض هي السيارة ، وجبال الذهب هي آبار البترول أو نفط الخليج ، وقوم يأجوج ومأجوج هم أهل الصين ، وأن القيامة أو الساعة ستقوم عام 2012 م ، إلى غير ذلك من التأويلات والآراء البعيدة والمرفوضة شرعا وعقلا ، مما تموج به الساحة الفكرية المعاصرة .
ونظرا لشيوع هذه الكتابات الغريبة والمتكلفة وانتشار هذا اللون من الخطاب الغيبي بين عامة المسلمين وخاصتهم شرقا وغربا ، ونظرا لتطور وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية ، وتطور وسائل المواصلات والاتصالات ، الأمر الذي جعل هذه الأفكار في متناول الجميع ، فقد استخرت الله تعالي وعزمت على معالجة هذه الأفكار الخاطئة وتنحيتها بعيدا عن الفكر الإسلامي الأصيل ، وتجلية ركن الإيمان بالغيب واليوم الآخر مما أصابه من آراء فاسدة وإسرائيليات باطلة ، وبيان أن مصدر كل ذلك هو الإسرائيليات والأساطير التي تسللت إلى الفكر الإسلامي من العقائد الأخرى ، ولذلك فكرت في الكتابة عن قضية نهاية العالم وموقف الإسلام من تحديد موعد لها في سلسلة موضوعات متتالية ، ونظرا لأن رواج هذه القضية وانتشارها والتنبؤ بموعدها قد أصبح عالميا ، حرصت على تتبع هذه الظاهرة في الغرب المسيحي وبيان موقفه عموما من تحديد موعد لنهاية العالم ، حتى تتضح رؤية الإسلام الصحيحة والمتمثلة في أحاديث الفتن والملاحم لنهاية العالم وقيام الساعة ، ويتضح أن ما على المسلم إلا بذل غاية جهده للاستعداد لها ، وبهذا تُدحض كل الشبهات والشائعات المثارة حول موعد قيام الساعة ووقوع أماراتها ، والقائمة على التأويلات الفاسدة والآراء الباطلة المنقولة إلينا من الفكر الغربي ومدارسه المختلفة ، وكذلك يُغلق باب التكهنات والتنبؤات التي مصدرها الخيال والتطلع لاكتشاف الغرائب ونسج فصولها .
الشيخ / محمود عبد الله بكار