سيدة نساء أهل الجنة
ثالثاً: الزوجة الأثيرة
ليكون درسا للآباء والأمهات والبنات وللأمة كلها كيف يكون الزواج ؟ وكيف يكون المهر ؟ وكيف تكون الحياة ؟ وكيف يكون تدبير الأمور ؟
ونحن اليوم نعاني ما نعاني من هذه المشكلات التي أورثت خللا في المجتمعات والتي ساعدت على شيوع المعاصي وكثرة السيئات وقللت من الحصانة والعفة وغير ذلك مما نعلمه.
أما خطبتها: فقد كانت على ما رواه ابن سعد في الطبقات جاءت بتدرج وببيان ؛ لمكانها ومقامها - رضي الله عنها - فقد روى أن أبا بكر خطب فاطمة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا أبا بكر انتظر بها القضاء ، وخطبها عمر ، فقال له : انتظر بها القضاء ، ثم قال بعضهم لعلي : اخطب فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ! فقال : بعد أبي بكر وعمر ! فذكروا له قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبها فزوجه النبي إياها).
وفيما رواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن حجر بن عنبس قال: خطب أبو بكر وعمر فاطمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي : هي لك يا علي لست بدجال - أي لست بكذاب - قال الشراح وذلك أنه قد وعد علياً بها قبل خطبة أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين.
وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاورها واختار لها عليا ربيبه ، الذي تربى في حجره وعلى نظره ، وكان علي يقول: " صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضع سنين لا أصلي إلا أنا وهو " ، يعني قبل أن يفشو الإسلام ، وقبل أن تظهر الجماعة ، وقبل أن يكون دار الأرقم وغير ذلك ..
يقول ابن سعد في الطبقات: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة : إن عليا يذكرك - يعني يخطبك - فسكتت ، فزوجها النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيما جاء من خطبة علي رضي الله عنه فيما رواه بريدة قال : قال نفر من الأنصار لعلي: عندك فاطمة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فقال: ما حاجة ابن أبي طالب؟ فقال: يا رسول الله! ذكرت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مرحباً وأهلاً، لم يزد عليهما، فخرج علي بن أبي طالب على أولئك الرهط من الأنصار ينتظرونه، قالوا: ما وراءك؟ قال: ما أدري غير أنه قال لي : مرحباً وأهلاً، فقالوا: يكفيك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إحداهما، أعطاك الأهل والمرحب، فلما كان بعد ذلك، بعدما زوجه قال: يا علي إنه لا بد للعروس من وليمة.
هذه خطبتها - رضي الله عنها وأرضاها - وعندما تزوجها علي - كما ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب - كان عمرها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ، وكان عُمر علي واحد وعشرون عاماً على الصحيح في هذه الروايات ، وكان هذا الزواج في رجب ، بعد ما كان من شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومقدمه المدينة بنحو خمسة أشهر ، ثم بنى بها - يعني دخل بها - بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من بدر ، وأخطأ من قال أن البناء كان يوم أُحد ، وأن القصة فيها أن حمزة رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم ذبح شارتين في وليمة عرس علي رضي الله عنهم أجمعين.
هذه خطبة فاطمة رضي الله عنها فكيف جُهزّت؟ وما كان مهرها؟ وكف كانت وليمتها؟ وكيف كان بيتها وجهازها؟ ثم كيف كانت عيشتها ومسيرتها في حياتها؟
أما المهر فالروايات متكاثرة ؛ لأنه عندما خطب علي - رضي الله عنه - وتقدم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والله ما لي من شيء ، فقال: وكيف؟ قال: فذكرت صلته وعائدته علي ـ يعني فضل النبي عليه السلام عيه ـ فتجرأت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما تصدقها؟ قال: يا رسول الله ما عندي ما أصدقها ، كما ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب قال: " ولم يكن يومئذ صفراء ولا بيضاء " ، لا ذهب ولا فضة عند علي ولا عند غيره إذ ذاك في أول الهجرة ، ما زال المسلمون في شدة كبيرة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أين درعك الحطمية؟ هي درع أعطاها له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نسبة إلى بطن حطم بن محارب كانوا مشتهرين بصناعة الدروع وقيل: الحطمية التي تحطم السيوف ، وقيل: الثقيلة الحصينة، قال: هي عندي يا رسول الله قال: أصدقها إياها ، فباعها بأربعة وثمانين درهماً فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها بلال ، وقال: ( اجعلوا ثلثيها في الطيب ، وثلث في المتاع ) ، وهذا من فقه النبي - صلى الله عليه وسلم ومعرفته - بطبائع النساء .. اجعلوا ثلثيها في الطيب وثلث في المتاع واللباس وغير ذلك ، فهذا كان مهر سيدة نساء أهل الجنة رضي الله عنها وأرضاها.
فما بال من يغالون في مهور بناتهم أيظنون ذلك منقبةً وشرفاً؟ أيظنونه تعظيماً لبناتهم؟ لوكان ذلك كذلك لكان الأحق به بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكنت أخبر بعض الأخوة أنه عقد في هذا الأسبوع ، وكنت أكتب هذا العقد لأصحابه فرأيت عقداً قبله والمهر مسطور فيه بمائة ألف فقلت : سبحان الله وما ينفع ذلك أو يفيد ، ونرى أننا بهذا نسد كثيراً من أبواب الحلال ، ونفتح أبواباً ونيسر طرقا للحرام ، وقد نكون بذلك آثمين ، وقد يكون الآباء في هذا من يعضلون بناتهم ، وممن يكون عليهم وزر في هذا إذا فاتها قطارها وتأخر عنها حظّها من بعد .. هذه فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم هذا مهرها.
أما جهازها ، فقالت أم أيمن: " ولّيت جهازها ، فكان فيما جهزتها به مرفقة من أدم ـ من جلد ـ حشوها ليف وبطحاء مفروش في بيتها ". هذا هو الفراش الوثير الذي كان في بيت فاطمة رضي الله عنها.
فقد وردت روايات كثيرة في هذا المنى ، حتى إنهم جاءوا بهذا التراب والحصى ليفرش في هذا البيت كأنما هو توطئة ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعث مع فاطمة بخملة ووسادة أدم حشوها ليف ورحاءين وسقاء وجرتين .
كم هي هذه الثروة عظيمة ؟ وكم هي موجودة في هذا البيت؟ كأنما هو قصر عامر وهو كذلك عامر بالإيمان والتقوى ، وما كان حشو فراشهما وسائدهما إلا الليف ، بل قد ورد أن من صداقها أنه كان لهم جلد لخروف ، إذا ناموا جعلوه على جهة الصوف وإذا احتاجوه لفوه من جهة الجلد ، وهذا يدلنا على البساطة ، و رواية أم أيمن مروية من الطبراني وإسناده رجال الصحيح.
لننظر إلى هذه المعاني من كانت هذه مقدمتها في خطبتها وفي مهرها وفي جهازها فأي شيء تكون عيشتها؟ وعلى أي صورة تكون حياتها؟ هل فيها مثل ما عندنا؟ أو ما عند نسائنا؟ لابد أن يكون المسكن فيه كذا من الغرف ولابد أن يكون فيه غرفة للنوم ، وأخرى للطعام ، وثالثة للجلوس ورابعة لكذا وكذا ، وخامسة لكذا .. ولابد.. ولابد.. كأنما يريد أن يسكن في جنة قبل جنة الآخرة .
ولا نقول هذا - ونحن نعرف أوضاع الحياة الاجتماعية - تحريماً له ، لكن إذا وجد ما يقتضي التنازل عنه مما هو خير ومما هو في جمع بين زوجين صالحين فالعاقل من يسمع لذلك ويتأسى بخير خلق الله عليه الصلاة والسلام ، ولتكن ابنته في شرفها وفخرها أنها كان لها أثر من فاطمة أو غير فاطمة من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أين كان سكنها؟ وكيف عاشت؟ في رواية ابن سعد في الطبقات عن أبي جعفر لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل منزلاً فطلب علي منزله حتى يسكن فاطمة فيه ، وبنى بها فى بيت أمه فاطمة بنت أسد وكان ذلك بعيدا عن بيت رسول الله وكانت تتمنى أن تكون من السكن بقرب أبيها وسرعان ما تحقق أملها فقد جاءها النبى قائلا : " إنى أريد أن أحولك إلىّ " ، فقالت لرسول الله : فكلم حارثة بن النعمان أن يتحول وأكون إلى جوارك .
فبلغ ذلك حارثة فتحول وجاء إلى النبى فقال : يا رسول الله إنه بلغنى أنك تحول فاطمة إليك وهذه منازلى وهى أقرب بيوت بنى النجار بك وإنما أنا ومالى لله ولرسوله والله يا رسول الله المال الذى تأخذ منى أحب إلىّ من الذى تدع .
فقال له الرسول: " صدقت بارك الله عليك " فحولها رسول الله إلى بيت حارثة .
وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فتحولت إلى جوار أبيها عليه الصلاة والسلام.
وماذا من بعد أيها الأخوة الأحبة؟ فاطمة وعلي ومن هما فاطمة وعلي؟ خذوا هذه اللوحة المعبرة المؤثرة في هذه الحياة الزوجية.
أقبل علي ذات يوم على فاطمة ودخل وهو منهك متعب مجهد من طبيعة الحياة وشدتها وكسب العيش وكده فقال: والله لقد سنوت حتى قد اشتكيت صدري ، السانية هي البعير الذي يستقى به الماء كان علي يسقي الماء عن طريق الناقة أو أحيانا بنفسه قال: قد سنوت حتى قد اشتكيت صدري وقد جاء الله أباك بسبي فاذهبي فاستخدميه، (اطلبي خادماً ) فقالت : أنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي - والمجل هو ثخن الجلد ووجود البثور فيه من كثرة ما كانت تطحن الشعير رضي الله عنها وأرضاها - فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما جاء بك وما حاجتك أي بنية ؟ قالت : جئت لأسلم عليك ، واستحيت أن تسأله فرجعت . فقال علي : ما فعلت ؟ قالت : استحييت أن أسأله . فأتياه جميعاً فقال علي : يا رسول الله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري وقالت فاطمة : لقد طحنت حتى مجلت يداي وقد جاءك الله - عز وجل - بسبي وسعة فأخدمنا، فماذا قال القدوة العظمى صلى الله عليه وسلم ؟ (والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانها) ، هناك أولويات هؤلاء يريدون خادما وفي المسلمين من أهل الصفة من لا يجد طعاما ، لكن هل قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تغمره الرحمة والشفقة على ابنته وفلذة كبده؟ بلى كان ذلك في نهار ذلك اليوم ، وإذا بالرسول في مسائه وليله يأتي إليهما ويطرق عليهما بابهما وقد دخلا في كسائهما ، وعليهما فرش إن غطيا الرأس بدت الأقدام ، وإن غطيا الأقدام بدا الرأس ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرادا أن يقوما قال: مكانكما ، ألا أخبركما بخير مما سألتماني ؟ قالا: بلى: فقال : ( كلمات علمنيهن جبريل : تسبحان الله دبر كل صلاة عشرا، وتحمدان عشرا ، وتكبران عشرا ،وإذا أويتما إلى فراشكما تسبحان ثلاثة وثلاثين ،وتحمدان ثلاثة وثلاثين ،وتكبران أربعا وثلاثين فذلك خير لكما من خادم ) قال علي: فما تركتها مذ سمعتها، فقال ابن الكواء قال: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين.
انظروا إلى هذه الصورة علي يشقى وفاطمة تتعب والسبي موجود ، والأمر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكنه يريد لأحب أحبابه وأقرب المقربين إليه ما هو الأفضل والأكمل يريد لهما خادماً في الدنيا وإنما خادماً في الجنة ، يريد عمران الدار الآخرة قبل عمران هذه الدار ، ولذلك صرفهما إلى عبادة ، لكنه كان يدل على أن في قلبه من الشفقة والرحمة ما جعله لا ينسى طلبهما ولا ينسى أن ما قاله لهما ربما أدخل إلى نفوسهما شيءٌ من هم أو غم فمسح ذلك بقدومه عليهما وإيناسه لهما ، وتقديمه الخير لهما عليه الصلاة والسلام.
صورة أخرى ؛ لنرى ما يدور في بيوتنا من المشكلات بين الزوجات وأمهات الأزواج حتى أصبح هذا الباب من الأبواب ، باب تسطر فيه الأقلام وتمثل فيه التمثيليات والمشاهد كما نسمع بل وتضرب فيه الأمثال هذه رواية ابن عبد البر يذكرها في الاستيعاب عن ابن أبي شيبة قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمر بن مرة عن أبو البختري قال: قال علي لأمه : اكفي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الخدمة خارجاً وسقاية الماء والحاج ، وتكفيك العمل في البيت والعجن والخبز والطحن .
في صورة من بر الأم ورحمة الزوجة وألفت الأسرة الواحدة بعيداً عن الخصومات والنزاعات والمكائد التي تحفل بها كثير من البيوت من خلال ما يتسرب إلينا من الأفكار الدخيلة ، والمضامين التي تبث عبر كثير من الوسائل والطرق مكتوبة ومرئية ومسموعة إلى غير ذلك.
هذه ومضات من الحياة الزوجية لتلك الزوجة الأثيرة رضي الله عنها وأرضاها وأحسب أن فيما نذكره من العبرة ما يغني عن كثير التعليق والتفريغ من كلامنا وقولنا ، فحسبنا بهذه العظيمة الشريفة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان مهرها درعاً ، وأن كان فراشها أدما حشوه ريش ، وأن كان تجهيز بيتها سقاءين ولحاءين وإن كانت معيشتها أن تخدم بنفسها وأن تقوم بحق زوجها رضي الله عنها وأرضاها.