شدة الحر والتحذير من النار شدة الحر والتحذير من النار
الحمد لله الذي جعل في اختلاف الليل والنهار تبصرة لأولي الألباب وذكرى، وجعل هذه الدار مجازاً تفضي لمن عليها إلى الدار الأخرى، ويسر من شاء من عباده لليسرى، وجنبه العسرى، ويسر مسالك الطاعات وسهلها وجزى على الحسنة الواحدة عشرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً أحداً وترا، شهادة تكون لقائلها في المعاد ذخرا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب المقام المحمود والشفاعة الكبرى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله:
اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أن الزمان بليله ونهاره وشهوره وأعوامه آية من آيات الله تبارك وتعالى التي جعلها للعباد ذكرى وموعظة قال عز وجل: -(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)- [آل عمران/190]
عباد الله:
واشتداد الحر والبرد في هذه الحياة الدنيا من جملة الآيات الكونية التي يخوف الله تعالى بها العباد، ويخطئ من ينسب شدة الحر أو البرد إلى فصول معينة من السنة أو إلى بروج قمرية، فإن الأيام والأعوام والشهور لا تأثير لها في خلق الله، بل هي خلق من خلق الله جعلها الله مواقيت للناس ليعلموا عدد السنين والحساب، وإن اشتداد الحر والبرد في هذه الحياة إنما هو من نَفَس النار من شدة حرها ومن شدة بردها وزمهريرها، يخوف الله تعالى بها عباده، ويذكر به من يتذكر ليتعظوا وينزجروا عما هم فيه من غفلة وإعراض عن الله تعالى.
ولذلك ترونه يختلف من سنة إلى أخرى ومن عام إلى آخر قال صلى الله عليه وسلم: اشتكت النار إلى ربها فقالت: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا. فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» -يعني البرد- متفق عليه.
عباد الله:
ولقد أمر الله عباده أن يقوا أنفسهم وأهليهم من النار فقال سبحانه: -(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)- [التحريم/6].
ومعنى قوا أنفسكم أي اتخذوا وقاية بينكم وبين النار تقيكم من حرها وعذابها وذلك بطاعة الله تعالى وترك معصية الله، فإنه لا يقي من هذه النار كثرة الحصون أو كثرة الجنود أو كثرة المال والأولاد وإنه يقي منها رحمة الله تعالى والعمل الصالح.
وكذلك أمركم بأن تقوا أهلكم وأولادكم من النار، والأولاد والأهل هم الأولاد والنساء ومن تحت يد الإنسان، فإنه مكلف ومسؤول عنهم بأن يأمرهم بطاعة الله وينهاهم عن معصية الله وأن يبعد عن بيته وسائل الفتن التي كثرت في هذا الزمان فيخلي بيته من وسائل الفتن والشرور التي أضلت وأفسدت كثيراً من الناس إلا من رحم الله.
عباد الله:
إن المسؤولية عظيمة، خصوصاً لما اشتدت الفتن في هذا الزمان، فيجب على أهل البيوت أن يحموا بيوتهم من هذه الأخطار التي هي طريق إلى النار.
وقوله تعالى: -( وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)- [التحريم/6] أي وقودها جثث الكفار والعصاة تشتعل بها نار جهنم ومع هذا فإنهم لا يموتون كما قال سبحانه: -(كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ)- [النساء/56] وهذه النار لا تطفأ أبدا قال تعالى: -( كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)- [الإسراء/97] فهي نار موقدة لا تطفأ أبدا ولا يبرد حرها ولا يخمد جمرها بل هي مستعرة متوقدة أبد الآباد وأهلها يشتعلون فيها أبد الآباد قال عز وجل: -(يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ)- [إبراهيم/17].
وقوله سبحانه: -(وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)- [التحريم/6] قيل هي الأصنام التي كانت تعبد في الدنيا كما قال تعالى: -(إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)- [الأنبياء/98] وقيل: حجارة الكبريت وهي أشد اشتعالاً والتهابا وهذه النار ليست كنار الدنيا قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ نَارَكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ».
فالفرق بين حر نار الدنيا وحر نار الآخرة عظيم والعياذ بالله من النار ومع شدته فإنه دائم مؤبد.
-(عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ)- [التحريم/6] هم خزنة جهنم غلاظ الطباع ليست فيهم رحمة شداد في أجسادهم فلا مطمع لأهل النار في رحمتهم لأنهم غلاظ ولا مطمع لأهل النار في التغلب عليهم لأنهم شداد.
-(لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)- [التحريم/6] ينفذون ما أمرهم الله تعالى به ولا يتركون منه شيئا ولا يحابون أحدا.
عباد الله:
إن هذه النار جعل الله لها مذكّرات في الدنيا فكل الهموم والأحزان والأمراض والأسقام والجوع والعطش كل ذلك يذكِّر بما في نار الآخرة مما هو أشد وأبقى وكذلك الحر في الدنيا كما قال تعالى عن المنافقين: -(وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ*فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)- [التوبة/81-82].
عباد الله:
إذا كنتم لا تطيقون حر الرمضاء وحر الهجير فكيف تطيقون حر نار جهنم، والعياذ بالله من جهنم، ففروا إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة التي تنجيكم من هذا الحر إنكم في هذه الدنيا إذا مسكم الحر تلجؤون إلى المبردات والمكيفات لتخفف عنكم الحر ولكن في جهنم لا محيد من حرها ولا وسيلة تقي من عذابها -(لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)- [الأنبياء/39]، لا يستطيع أهل النار دفع شر من حرها وليس عندهم وسائل تبريد وليس عندهم وسائل وقاية من حر النار، يصلونها أبد الآبدين.
وكذلكم هذه النار التي توقدونها إنها تذكر بنار جهنم قال سبحانه: -(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ*أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ*نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ)- [الواقعة/71-73] تذكِّر بنار جهنم فإذا كنتم لا تطيقون حر هذه النار التي بين أيديكم وتنفرون منها فكيف بنار جهنم والعياذ بالله.
ومع هذا ليس هذا العذاب في الآخرة يأتي ساعة أو يوماً أو شهرا أو سنة ثم ينقضي، بل هو عذاب دائم سرمدي لمن مات على الكفر والشرك عياذاً بالله، لا يخفف عنهم من عذابها أبد الآباد، بل كلما خبت زادهم الله سعيراً وعذابا، وطعامهم الزقوم وشرابهم الحميم، سرابيل من قطران وتغشى وجههم النار -(فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ*يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ*وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ*كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)- [الحج/19-22].
فتأملوا رحمكم الله هذا المصير، تأملوا هذه النار التي حذركم الله منها وأمركم بالفرار منها إلى الجنة، وذلك بطاعة الله سبحانه وتعالى وبإمكانكم بتوفيق من الله اليوم أن تفروا من هذه النار إلى طاعة الله وجنته، وأن تتوبوا إلى الله وأن تتأهبوا بالأعمال الصالحة.
فاتقوا الله عباد الله:
واحذروا من هذه النار ولا يكفي أن الإنسان يقول: أعوذ بالله من النار بلسانه بل يقول: أعوذ بالله من النار، ويعمل الأعمال التي تبعده من النار لقوله تعالى: -(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)- [التحريم/6]
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير أن نستعيذ بالله من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال( ) فبدأ بالاستعاذة من نار جهنم لشدة خطرها وعظيم ضررها وأنها أم المهلكات نسأل الله العافية، قال عز وجل: -(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ*لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ*وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ*وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ*لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ*أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ*أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)- [الزخرف/74-80] وقال عز وجل: -(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ*يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ*إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ*إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ*طَعَامُ الْأَثِيمِ*كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ*كَغَلْيِ الْحَمِيمِ*خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ*ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ*ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ*إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ)- [الدخان/40-50] وقال عز وجل: -(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ*وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ*يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ*مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ*هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ*خُذُوهُ فَغُلُّوهُ*ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ*ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ*إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ*وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ*فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ*وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ*لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ)- [الحاقة/25-37].
اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار، اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار.
اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر وعذاب النار اللهم أجرنا من عذاب القبر وعذاب النار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله:
اتقوا الله تعالى وأطيعوه واعلموا أن طاعته أقوم وأقوى، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واحذروا أسباب سخط الجبار فإن أجسامكم على النار لا تقوى.
عباد الله:
إن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار.
عباد الله:
-(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)- [الأحزاب/56].
وأكثروا عليه من الصلاة يعظم لكم ربكم بها أجرا.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم انصر دينك، وانصر من نصر دينك، واجعلنا من أنصار دينك، يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء الدين وانصر عبادك الموحدين.
اللهم وآمنا في دورنا وأوطاننا وأصلح ووفق ولاة أمورنا.
اللهم بلغنا شهر رمضان، اللهم بلغنا شهر رمضان، اللهم بلغنا شهر رمضان، وأعنا فيه على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولأولادنا ولأزواجنا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
-(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ*وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ*وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)- [الصافات/180-182].