وسطية الاسلام لقد خص الله عز وجل الأمة الإسلامية بشرف ختم الرسائل السماوية فيها وجعلها شاهدة على جميع الأمم وجعل رسوله وخاتم أنبيائه شاهداً على هذه الأمة وبالرغم من كون هذه الأمة ، هي آخر الأمم في الدنيا ، إلا أنها مقدمة على جميع الأمم يوم القيامة ، فقال النبي ( ) " نحن الآخرون السابقون – نحن آخر الأمم وأول من يحاسب ، وذلك لأنهم أمة وسطاً بين الأمم ، فهم الذين قال عنهم المولى عز وجل " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " .
وقال تعالى في موطن آخر " يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " . فهاتين الآيتين توجه النظر إلى الأمة الإسلامية بأنها خير الأمم، وأنها سبقت الأمم السابقة عليها بمميزات هي أنها تأخذ على يد فاعل الشيء وتحثه على المعروف ، وتزجر فاعل المنكر وتنهاه عن فعله ، فقدم المولى عز وجل الأمر هنا عن الإيمان لبيان منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأنه سبب من الأسباب التي جعلت هذه الأمة سابقة على ذويها ، ثم جاء بعد ذلك الإيمان بالله ، وأنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له ند ولا ولد – أما في الآية الأخيرة فإننا نرى أن المولى عز وجل قدم الإيمان به أولاً ، لأنه هو السبب في تنفيذ أوامره وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فجعل أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الإيمان بالله .
فكانت هذه من مميزات الأمة عن غيرها من الأمم ، كما كانت شرف الرسالة المحمدية لها الفضل الكبير في تميز هذه الأمة عن غيرها ، فكانت أمة وسطاً بين الإفراط والتفريط ، فالنبي ( ) هو خاتم الأنبياء فجاء بما جاء به الرسل السابقون عليه ، وكان النبي ( ) يتبع الأوامر الإلهية المنزلة عليه ، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وهذه الأركان واحدة على مر الرسل والأنبياء ، فكانت ميزة هذه الأمة بكونها وسط وشاهدة على هؤلاء الأقوام قال تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً " فكلمة وسط في الآية الكريمة تضبط على وجهين :
أ – ( وسْط ) بسكون السين فتكون ظرفاً ، بمعنى بين ، ومنه جلست وسط القوم ، أي بينهم .
ب – ( وسَط ) بفتح السين ، ويكون لها معاني متقاربة ، ومتعددة منها :
1- اسماً لما بين طرفي الشيء ، ومنه نقول قبضت وسط الحبل ، وكسرت وسط القوس ، وجلست وسط الدار .
2- تأتي بصفة بمعنى " خيار " وأفضل وأجود ، فأوسط الشيء أفضله وأخيره وخياره ، كوسط المرعى .
3- تأتي بمعنى " عدل " وإن أعدل الشيء أوسطه .
4- تأتي بمعنى الشيء بين الجيد والردئ .
ومعنى وسوطا – المتوسط المعتدل ومنه قول الإعرابي علمني ديناً وسوطا
ولا ذاهبا فرطا ولا ساقطاً سقوطاً فإن الوسط هو المتوسط بين الغالي والتالي .
فالوسطية هي كون هذه الأمة وسط بين الأمم ، وأنها أفضلهم كما ذكرنا بصفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله .
ولقد ذكر محمد رشيد رضا- رحمه الله - في ذلك ، والحق أقول : إن هذه الأمة ما فتئت خير أمة أخرجت للناس حتى تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم قال : وقد بين الفخر الرازي كون وصف الأمة هنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقال : وأعلم أن هذا الكلام مستأنف ، والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية ، كما تقول زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم .
وما تزال الأمة الإسلامية تأخذ أصول سباتها وطريقة معاشها من مصدرها
الإلهي المرسل إليها عن طريق نبيها الذي وصفه الله عز وجل وأثنى عليه بالعبودية ، فقال تعالى " سبحان الذي أسرى بعبده " . فالعبودية مناط تشريف ، لأن مهمة الإنسان في الأرض كما قال ربنا " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " فكانت العبودية هي قمة الطاعة ، وكما يعبر الصوفية عن الحرية .
بأنها إخضاع العبودية لله أو التحرر من العبودية لغير الله أو إفراد العبادة لله .
فالنبي ( ) هو الإنسان الذي رباه ربه فأحسن تربيته ، وأدبه فأحسن تأديبه ،
وقد عبر عن ذلك في قوله " أدبني ربي فأحسن تأديبي " وعبر القرآن الكريم عن ذلك فقال " وإنك لعلى خلق عظيم " .
ولقد خص الله عز وجل لخاتم الرسل بأفضل البشر ، هم الصحابة رضوان الله فقال فيهم المصطفى ( ) " إن أفضل القرون قرني هذا ثم الذي يليه ثم الذي يليه " .
فكان النبي ( ) يشاور أصحابه ويأخذ بأقوالهم ورأيهم ، فقال تعالى في ذلك
" فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله " .
ونجد أن الإسلام قد أقر بمذهب المشورة ، وجعله أحد أركان الدعوة الإسلامية ، والكيان الاجتماعي للدولة ، فالمولى عز وجل أمر رسوله بأن يشاور أصحابه وأن يأخذ بأقوالهم ، ونجد ذلك واضح في غزوة بدر ، حينما قال له الخباب بن المنذر يا رسول الله " أمنزل أنزله الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة " فأجاب النبي ( ) بل هو الرأي والحرب والمكيدة فأجاب الصحابي فلننزل ببدر ، فإننا نشرب ولا يشربون فنزل النبي () على قول الصحابي .