ثمرات الإتقان
وثمرات الإتقان كبيرة، فإن الإنسان ينال رضا الله، وتحصل البركة والرفعة في الآخرة والدنيا وتتحقق مطالب الشريعة، وإذا كان الإتقان في طلب العلم والتعليم والحديث والقرآن والتجويد كيف ستكون قوة الأمة ؟ إذا كان الإتقان في الدعوة، إتقان أساليب الدعوة، بعد إتقان منهج الدعوة ، طرق الدعوة، وسائل الدعوة، التبليغ ، الداعية بناء الدعاة، التربية، بناء المربين، التربية أحكام التربية وإتقان التربية، زرع المفاهيم كيف تؤسس القواعد في النفوس، بأي شيء تبدأ، كيف تتعاهد هذا المفهوم، استعمال القصة تارة، والحدث، والموعظة، ضرب المثل، وهكذا استثمار الأحداث، هنالك إتقانات مهمة جداً اليوم نتحاج إليها في عالم الدعوة والتربية، كي يخرج دعاة على مستوى نشر هذا الدين، كي يخرج لنا مربون ينتجون لنا أجيالاً.. عندنا اليوم نقص وتدهور في مستوى الدعوة والتربية، فلذلك مقاومة هذا الباطل العام والكاسح من يتصدى له؟ ولماذا ؟ حتى تطبيق معايير الجودة في الدعوة والتربية مهم أيضاً، وليس بالطريقة النظرية أو المادية التي عند الغرب، نأخذ منهم ما نستفيد لكن عندنا ما نزيد عليه، كما تقدم من الأسباب .
وإن النجاح وليد الاستمرار والمثابرة، وإن الإتقان سبب البقاء، والقدرة على المنافسة للآخرين، ثم يُكسب الثقة في منهجك وطريقتك، وأنت إذا كنت متقناً في طريقة العرض كسبت الزبائن بالفكرة، في عالم تتصارع فيه المناهج والأطروحات، ويزاحم فيه المبتدعة والمشركين أهل التوحيد، ويهجم فيه أهل الباطل والكفر على أهل الحق والإسلام، فيحتاج أهل الإسلام اليوم إلى الإتقان في المواجهة، لأن طريقة العرض والتقديم والإعلام والإعلان وتعبئة هذا المنتج وكيف نغزو به نفوس الآخرين، فيدخل فيها برداً وسلاماً، المسألة تحتاج إلى تعاون ومثابرة، لا بد أن ننشئ مدارس عملية في هذا الجانب، سواء كانت بمنشئات أو بأشخاص وخبراء، لأن القضية تختصر الوقت فإن عدم الإتقان يضيع أوقات كثيرة، لا بد من التدريب، ولا بد من التطوير، ولا بد من الابتعاد عن التسيب والإهمال واللامبالاة، وقضية النوم والكسل، في بعض شعوب العالم كاليابانيين عندهم قضية الراحة عيب، هذا شعب يجيد الادخار، ويدخر من 20 - 40% من دخله، وعنده الإتقان عنوان، والنظرية أنه لا يوجد شخصان يمتازان بنفس الدرجة من التفكير والإبداع، إلا ماتوا، هم يقولون يموت الإبداع إذا كنا نتشابه في التفكير والابتكار، ولذلك لا بد أن يوجد اختلاف بيننا باستمرارية التقدم، فيستغلون الفروق الفردية والجماعية، وإذا كان الإتقان طريق التفوق والقوة، { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ }(القصص: من الآية26). لا بد أن نحافظ على هذا، ليست المسألة اليوم مسألة حسب ونسب وشرف، وهالة إعلامية وشهرة، لا ، القضية هي قضية جودة حقيقية داخلية، { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } (يوسف:55). صفتان للإتقان والإنتاج وتحقيق المطلوب والوصول إلى الهدف، {حفيظٌ عليم}، لم يذكر يوسف في هذا أنه ابن نبي، وأنه الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، بل ذكر الصفات المناسبة للمهمة .
فتعلمِ العلم الذي تختارُه لتجيدَه فالسَبْقُ للمتفرِّد
وإذا أردتَ كرامةً من مهنة أَتقنْ فإن أتقنتها تتسوَّد
الإتقان سبب الرفعة، قال الذهبي : لا ريب أن ابن لَهيعة كان عالم الديار المصرية، هو والليث معا، كما كان الإمام مالك في ذلك العصر عالم المدينة، والأوزاعي عالم الشام، ومعمر عالم اليمن، وشعبة والثوري عالما العراق، وإبراهيم بن طهمان عالم خراسان، ولكنَّ ابن لهيعة تهاون بالإتقان، وروى مناكير، فانحط عن رتبة الاحتجاج به عندهم. فرواية ابن لهيعة ليست مثل روايات اللليث ومالك والأوزاعي وشعبة، إبراهيم بن طهمان.
مرة أخرى، إن مفاسد وأضرار عدم الإتقان تجعلنا اليوم نعلم علماً يقيناً أنه لا بد أن نهتم بهذه القضية، والعمل الغير المتقن وجوده كعدمه، وأحياناً عدم وجوده أحسن .
كانت العرب تنفي العمل كله إذا انتفى التجويد والإتقان، فتقول للصانع الذي ما أحكم صنعته: لم تعمل شيئاً، وتقول للسامر والمتكلم الذي ما أحسن قوله: لم تقل شيئاً.
إن لم يكن هناك إتقان تُفقد الثقة، إذا الداعية ما أتقن يفقد المدعوين، إذا المربي ما أتقن يفقد المتربين.
ثم انعدام الإتقان ضرب من ضروب الغش، وسبب عظيم للتخلف، انظر اليوم إلى الخسائر الحادثة بسبب عدم الإتقان، وفايات لإهمال طبي،نسيت فوطة، مشرط، زادت جرعة التخدير والنتيجة الله مات. العامل في المجال الصحي مؤتمن على أرواح الناس، الصيدلي مؤتمن في قضية الدواء، المهندس مؤتمن في قضية البناء، كم مبنى سقط ؟ وعمارة انهارت وأرواح ذهبت وأموال وخسائر، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (لأنفال:27) .
تصدعات في جدران، في جسور، تؤدي إلى انهيارات وخسائر في الآليات والأرواح، سدود أغرقت بلدان.
وقضية الجودة ليست كما قلنا عندنا نحن المسلمين في المسألة الدنيوية المادية فقط، فالخطيب هل يتقن إعداد الخطبة؟ لا أنه وهو ذاهب للمسجد ربما يقول لصاحبه : ما هو رأيك نخطب عن ماذا؟ هل عن غزوة بدر ؟
فإنك يا أخي إذا لم تحترم عقول المصلين عندك وليس عندك حسن إعداد، لماذا تستولي على المنبر، أفسح المجال لغيرك.
الإتقان في الحياة الزوجية مهم جداً في أحكام بناء الأسرة، الإتقان في العلاقات الجماعية يديم لك الصداقات والأخوة والعلاقات مع أقاربك وأصدقائك وإخوانك في الله .
الإتقان إذاً أيها الأخوة له أبعاد كثيرة، ما هي القضية فقط قضية دنيوية، ليست القضية فقط قضية شرعية بمعنى أعمال الآخرة فقط، العبادات فقط، الشعائر التعبدية فقط.
لا بد من مراجعة العملية، عملية الإتقان هذه والإحسان وإن الله كتبه على كل شيء تجعلنا نراجع أنفسنا ونصر على أن نغرس هذا المبدأ في الصغار ونتعود عليه ونُصر عليه كباراً حتى يرضى الله عنا.
نسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا جميعاً الإخلاص والاستقامة، وأن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، وأن يجعلنا من المحسنين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال الله عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة/105).
قال ابن كثير في تفسيره عن مجاهد – رحمهما الله -: "قال مجاهد: هذا وعيد يعني من الله تعالى للمخالفين أوامره بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة، كما قال: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} وقال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} وقال: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} وقد يظهر الله تعالى ذلك للناس في الدنيا".
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" (رواه مسلم).
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" (رواه البيهقي في شعب الإيمان وحسنه الألباني).
هذه النصوص الكريمة المباركة ترشد المؤمنين إلى أعظم قيمة لهم في هذه الحياة، وهي العبودية لله عز وجل، التي تتمثل هنا في إتقان العمل والإحسان في كل شيء ومراقبة الله عز وجل في كل وقت وحين:
{فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ}.. وأنه سبحانه "كتب الإحسان" ويحب جل وعلا ممن "عمل عملا أن يتقنه" فاجتمعت ألفاظ الإيجاب والترغيب في تشديد وتأكيد لهذه القيمة العظيمة: إتقان الأعمال وإحسانها.
ولذلك فإن قيمة كل امرئ – كما في القول المأثور – ما يحسنه، ولكنها في الوقت نفسه تقدّر بإخلاصه في هذا الإحسان لله جل وعلا.
وفي الحديث القدسي: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" (رواه مسلم).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "العامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب"!
نية وعمل يصنعان الإتقان
فالمؤمن في حياته الدنيا عندما يراعي في عمله المكلف به العمل إحسانه وإتقانه وإتقانه، إنما يفعل ذلك لعلمه أن الله يراقبه في عمله وفي كل أحواله، وأنه تعالى لا يرضى من المؤمن إلا أن يقوم بعمله بإتقان وإحسان.
ومن أهم الأخلاق التي تتحقق بها جودة العمل والإنتاج: الأمانة والإخلاص، وهما خلقان لن تجدهما أفضل مما لدى المؤمن؛ لأن همه ليس مجرد إرضاء صاحب العمل، بل إرضاء رب صاحب العمل جل وعلا، كما أنه في الوقت نفسه وبالوازع نفسه يرعى حق إخوانه المؤمنين، وهذا حال من يعيش مع القرآن الكريم علما وعملا، وتلاوة وتدبرا، قال تعالى: {وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون} (التوبة:105).
فشعور من يتمثل هذه الآية يختلف تماما عن شعور من يعيش مع عمله اليومي بروتينية وتكرار دون حضور نية أو إخلاص، حتى لو كان ممن يتقن عمله، فالمهم في المسألة أن يكون إتقان العمل وإحسانه ابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة.
دين ودنيا..!
من أغرب ما يلاحظ في واقع الناس، وهو بعيد كل البعد عن روح الإسلام ومنهجه: أن تجد بعض الناس يتحقق فيه الحرص على أمور الدين وإتقانها مع إهمال أمور الدنيا من الأعمال والحقوق. وفي المقابل آخرون متميزون في إتقان أمور دنياهم دون دينهم {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}.
فلا هذا ولا ذاك على صواب وهُدى، وإنما الحق والصراط السوي هو منهج الوحي المطهر الذي استفاض بيانه في القرآن والسنة، ومن ذلك قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (القصص:77).
وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، وقال ابن عمر: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء".
ومن المعلوم أن عابر السبيل له في سبيله ومسيره حاجات من مطعم ومشرب ومستراح وغيرها، وهكذا حياة المؤمن يراعي شؤون دنياه كلها بما أحل الله ولكن قلبه معلّق بالآخرة فلا تطغى دنياه عليها، بل هي مزرعة لها!