بعد المقدمة .......لقد تفردت شريعة الإسلام على غيرها من الشرائع والقوانين، بأنها كرمت المرأة، وأحسنت إليها، وأثبتت لها حقها في التملك وحيازة المال بعد أن كانت في الجاهلية كسقط المتاع، تباع وتشتري، ولهذا أوجب الإسلام على من يتقدم لخطبة المرأة أن يدفع لها الصداق، وهو عبارة عن نوع من التقدير والاحترام، وليس ثمناً أو قيمة لها وَءاتُواْ ٱلنّسَاء صَدُقَـٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً [النساء:4].
والإسلام لم يحدد مقدار المهر وكميته، وذلك لتباين الناس واختلاف مستوياتهم وبلدانهم وعاداتهم، ولكن الاتجاه العام في الشريعة الإسلامية يميل نحو التقليل فيه، فذاك أقرب لروح الدين، فيكون حسب القدرة وحسب التفاهم والاتفاق.
الإسلام في حرصه على إقامة الحياة الزوجية الهانئة إنما يقيمها على الدين والخلق، أخرج الترمذي: (1085) بسنده عن أبي حاتم المزني قال رسول الله : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد)) قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه؟ قال: ((إذا جاءكم من ترضون دين وخلقه فأنكحوه)) ثلاث مرات.
والإسلام اعتبر أن المرأة كلما كان مهرها قليلاً كان خيرها كثيراً، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة)) [مشكاة المصابيح: 3097].
وأخرجه أحمد: (6/91) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها)).
وقد كان السلف الصالح – رضوان الله عليهم – يتزوجون على القبضة من الطعام وعلى تعليم القرآن، أخرج البخاري: (5135) بسنده عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى رسول الله ، فقالت: إني وهبت من نفسي، فقامت طويلاً، فقال رجل: زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((هل عندك من شيء تصدقها))؟ قال: ما عندي إلا إزاري فقال: إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك، فالتمس شيئاً فقال: ما أجد شيئاً، فقال: ((التمس ولو كان خاتماً من حديد))، فلم يجد، فقال: ((أمعك من القرآن شيء))؟ قال: نعم سورة كذا وكذا وسورة كذا، لسور سماها، فقال: ((قد زوجناكها بما معك من القرآن)).
ولقد خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: والله ما مثلك يرد، ولكنك كافر، وأنا مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري، ولا أسألك غيره، فكان كذلك، أسلم، وتزوجها رضوان الله عليهم أجمعين.
وصحابية أخرى لم تجعل المال هدفها، ولا العَرَض النفيس غايتها ومقصدها، فلم تشترط مركبًا فارهًا، ولا لباسًا غاليًا، ولا سكنًا واسعًا، بل اقتنعت بأن صداقها أقل القليل، هما نعلان تلبسهما تقي بِهما قدميها حر الرمضاء وقسوة البرد في الشتاء، فعن عامر بن ربيعة أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فعلم رسول الله بذلك فقال لها: ((أرضيتِ من نفسك ومالك بنعلين؟)) قالت: نعم، فأجاز نكاحها. رواه الترمذي وصححه.
بل إن سعيد بن المسيب رحمه الله زوج ابنته على درهمين.
في يوم من الأيام ـ كما ذكر ذلك الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/233) ـ كان سعيد بن المسيّب رحمه الله تعالى ورضي عنه أحد كبار التابعين ممن روى العلم عن أكابر الصحابة رضي الله عنهم الذي لم تفُته تكبيرة الإحرام أربعين سنة في مسجد النبي ، كان يتردّد عليه طلبة العلم، ومن ضمن الذين كانوا يتردّدون عليه ويحافظون على حضور دروسه تلميذ نبيه يسمَّى عبد الله بن أبي وداعة، فافتقده سعيد بن المسيّب أيامًا، فدخل عليه بعدها فقال: أين كنت يا عبد الله؟ قال: لقد توفِّيَت زوجتي فانشغلت بها، قال: ألا آذنتَنا حتى نحضرَها؟! ثم قال له: يا عبد الله، هل أحدثت زوجًا غيرها؟ هل تزوجت غيرها؟ قال: يرحمك الله يا إمام، ومن يزوّجني ولا أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟! قال: أنا أزوِّجك، قال: وتفعل؟! قال: نعم، ثم حمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيه وزوّج تلميذه بدرهمين. قال عبد الله: فخرجت وأنا مهموم؛ من أين أستدِين؟! ومن أين أوفّر الصداق؟! ومن أين آتي بالمال؟! فبينما كنت في منزلي بعد صلاة المغرب وكنت صائمًا وقد قرّبت فطوري وكان خبزًا وزيتًا قال: فإذا بالباب يطرق، فقلت: من؟ قال: سعيد، قال: فحضرني كلّ من اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيّب؛ لأنه لم يغادر بيته إلى مسجده منذ أربعين عامًا، قال: ففتحت الباب فإذا سعيد بن المسيب! إمام أهل المدينة العالم الكبير، قال: قلت: يرحمك الله لو أرسلتَ إلي لأتيتك، قال: لا، أنت أحقّ أن تؤتى، إني تذكّرت أنك رجل كنت ذا زوجة وأنك تبيت عزبًا هذه الليلة، فخشيت أن تبيت وحدَك وهذه زوجتك، قال: فدفعها إليّ وأغلق الباب، قال: فوجدتها من أحفَظ النساء لكتاب الله ولسنّة رسول الله ، ومن أجمل ما رأت عيناي.
وكانت ابنة سعيد بن المسيب هذه قد خطبها عبد الملك بن مروان خليفة المسلمين لابنه وليّ عهد المسلمين الوليد بن عبد الملك، فأبى أن يزوّجه أياها.
الصحابة – رضوان الله عليهم – كانوا يمهرون ملء الكف من الدقيق أو السويق أو التمر، أخرج أبو داود: (2110) بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي قال: ((من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقاً أو تمراً فقد استحل)). ضعيف الجامع الصغير ( 5453 ) ، المشكاة ( 3205 )
ورسولنا هو الأسوة والقدوة لهذه الأمة فلم يكن يزيد في مهر نسائه أو بناته عن خمسمائة درهم، أخرجه أبو داود: (2106) بسنده عن أبي الجعفاء السلمي قال: خطبنا عمر رحمه الله فقال: ألا لا تغالوا بصداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها النبي ، ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشر أوقية.
وتزوج عبد الرحمن بن عوف على وزن نواه من ذهب[23]، وقد أنكر على المغالين في المهور، فقد جاءه رجل يسأله فقال: يا رسول الله، إني تزوجت امرأة على أربع أواق من الفضة ـ يعني مائة وستين درهمًا ـ فقال النبي : ((أوّه، على أربع أواق من الفضة؟!! كأنما تنحتون الفضة من عُرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك)
إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوٰنَ ٱلشَّيَـٰطِينِ وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء: 27].
إنه لمما يندى له الجبين أن تصرف أموال طائلة على مناسبة واحدة، في أي سبيل ذلك؟ أغرّ هؤلاء وجود المال بين أيديهم؟!! ((إن أناسًا يتخوّضون في مال الله بغير حقه لهم النار يوم القيامة)) هذا لفظ حديث مرفوع، أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس [3118] من حديث خولة الأنصارية رضي الله عنها. ومعنى يتخوّضون أي يتصرفون فيه بالباطل.
هذا أمر رسول الله الذي خالفه بعض الأولياء هداهم الله، فخانوا الأمانة التي حُمِّلوها في بناتهم بمنعهنّ من الزواج من الأكفاء دينًا وخلقًا وأمانة، فقد يتقدم إليهم الخاطب الكفء فيماطلونه ويعتذرون له بأعذار واهية، وينظرون فيه إلى أمور شكلية وجوانب كمالية، يسألون عن ماله، وعن وظيفته، وعن وجاهته ومكانته، ويغفلون أمر دينه وخلقه وأمانته، بل لقد وصل ببعض الأولياء الجشع والطمع أن يعرض ابنته سلعة للمساومة وتجارة للمزايدة والعياذ بالله، وما درى هؤلاء المساكين أن هذا عضل وظلم وخيانة، ألم يسمع هؤلاء بالقصص الواقعية لضحايا هذه الظاهرة؟! ألم يقرؤوا الرسائل المؤلمة المفجعة التي سطرتها دموع هؤلاء؟! إنها صرخة نذير في آذان الآباء والأولياء، ورسالة عاجلة إليهم أن يتداركوا شرفهم وعفتهم وعرضهم قبل فوات الأوان.
أين الرحمة في قلوب هؤلاء الأولياء؟! كيف لا يفكرون بالعواقب؟! أيسرُّهم أن تلطَّخ سمعتهم مما يندى له جبين الفضيلة والحياء؟! سبحان الله، كيف يجرؤ مسلم غيور يعلم فطرة المرأة وغريزتها على الحكم عليها بالسجن المؤبد إلى ما شاء الله؟! ولو عقل هؤلاء لبحثوا هم لبناتهم عن الأزواج الأكفاء، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرض ابنته حفصة على أبي بكر ليتزوجها، ثم على عثمان رضي الله عنهم أجمعين. وهذا سعيد بن المسيب رحمه الله سيد التابعين يزوج تلميذه أبا وداعة.
أيها المسلمون، يا أحباب محمد، إن الإسلام لم يشرع في نفقات العقد والزفاف سوى المهر للمرأة، والوليمة لحفلة العرس، وإكرام الضيف بما يناسب الحال. أما ما عداها من الهدايا والنفقات، كغرفة النوم وأثاث البيت والملابس والمال الذي يعطى لأب العروس وإخوتها وعمها وخالها، فهي ليست فرضًا واجبًا، وليس من شروط العقد والنكاح في شيء أبدًا. ومن أراد أن يكرم على العروس فليكرم عليها من ماله.
والله الذي لا اله إلا هو، إنه لمن العار على أقارب العروس أن يأخذوا من العريس ما يكرمون به على رحمهم أمام الناس، يطلب ولي العروس مهرا بآلاف الدنانير، ويبخل عليها بعشرة دنانير، أإلى هذا المستوى ـ أيها الناس ـ أصبحنا تبعا للعادات والتقاليد الجاهلية؟!
يا أمة محمد، يا خير أمة أخرجت للناس، لم يشرع في الزواج إلا المهر، فمن أين جاءت تلك التكاليف الباهظة؟! ذهب، غرفة نوم، ملابس، أثاث بيت، هدايا لأقارب العروسين، العم والخال، أجرة صالون، نفقات حفلة الزفاف، وغير ذلك من تبعات الزواج، ناهيك عن المهر المؤجل الذي يبقى دينا على الزوج في حياته ومماته، آلاف الدنانير هي تكاليف الزواج عندنا.
كل هذا على من؟! على عامل ينام في العبارات أو في الحرش، تحت الأرض أو فوق الشجر، يعمل يوما ويسجن أياما، أو على موظف معاشه لا يكفي لحاجاته الضرورية، فكيف سيوفر آلاف الدنانير؟! كم سنة يحتاجها لتوفير هذا المبلغ؟! شباب فقراء مساكين في مجتمع لا يرحم، يحلمون بالزواج وكأنه أصبح ضربا من الخيال.
فإلى من تكلوهم يا عباد الله؟! إلى الاحتلال الصهيوني الذي يسقطهم أفواجا أفواجا، أم إلى السلطة الفلسطينية التي أحلت لهم الزنا واللواط، ووفرته لهم في الجامعات وأماكن الاختلاط؟!
فيا أولياء الأمور، أين الرحمة بهؤلاء؟! بل أين الرحمة ببناتكم؟! كل شيء بالانتفاضة تأثر إلا المهر، وكل العادات تتغير وتتبدل إلا في الزواج، فإلى متى يا عباد الله؟! إلى متى يا أولياء الأمور؟! إلى متى يا من تتركون سنة الحبيب المصطفى؟!
الرسول لم يُزَوِّج ولم يَتَزَوَّج بأكثر من عشرين دينارا بمستوى معيشتنا، وأمته في هذا البلد لم تُزَوِّج ولم تَتَزَوَّج بأقل من ثمانية آلاف دينار.
فيا أولياء الأمور، نسألكم بالله العظيم أن تتعاونوا على تخفيض المهور، ويا أيها العلماء، يا أئمة المساجد، يا أهل الدين، يا أهل الخير، نسألكم بالله العظيم أن تزوِّجوا بسنة محمد، فأنتم القدوة، وغيركم تبع لكم. سنة ميتة، من يحييها له أجر مائة شهيد، من منكم يكون أهلا لها؟! من منكم يملك الجرأة الكافية والإيمان القوي لينتصر على نفسه الأمارة بالسوء، وعلى تلك العادات الجاهلية الموروثة، فيثبت بذلك حبه لرسول الله ، ويسن سنة حسنة، له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة؟!
أيها المؤمنون، يقول النبي : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)). وهذا خطاب للرجال العقلاء، لا للنساء اللواتي قُلِّدن أمر الزواج في هذا المجتمع. والله يوفقنا واياكم