قراءة في كتاب دليل الإمام لتجديد الخطاب الديني من جهة أخرى، ينهل الشيخ سالم في كافة التعريفات التي أوردها حول التجديد من بطون الكتب التراثية، مع أن التجديد، في جزء كبير منه، يعني الاستفادة مما هو معاصر وتجاوز القوالب التراثية الراديكالية. وهي ملاحظة سنعود إليها مرة أخرى عند تحليلنا للمصادر التي عول عليها المؤلفون في إعداد الدليل.
وبالمثل، يكتنف تعريف العلقمي لمعنى التجديد العديد من الصعوبات حيث يعرفه بأنه "إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما". فمن يحدد ما اندرس ووفق أي أساس؟ وإذا كان بديهيا أن جميع النصوص الواردة في الكتاب والسنة صالحة لكل زمان، ألا يبدو الخلط هنا واضحا بينها وبين الخطاب الديني الذي هو مجرد فهم بشري لهذه النصوص ومن ثم فمنها ما هو صالح لزماننا هذا ومنها ما لا يجوز قبوله مطلقا والأخذ به؟!. ألم تكن تلك الخطابات ترتهن إلى سياق حركة المجتمع العربي وحدود فضاءاته الحضارية؟!! ألا يزيد التمسك بها من اتهامنا بالثبات والجمود عدم التطور وهي ألفاظ كلها تقع بالمناسبة في التضاد من معنى "التجديد"؟!.
أيضا يبدو اللبس واضحا من خلال شرح الشيخ سالم لتعريف التجديد والذي يقول فيه: "ويكون التجديد بإحياء الفرائض... وتخليص العقيدة من الإضافات البشرية"؛ فوفقا للتعريف الصحيح لمفهوم الخطاب، يعد الخطاب نتاجًا بشريا، ومن ثم فمثل هذه الإضافات البشرية التي يرغب في تخليص العقيدة منها هي خطاب ديني في الأساس وعادة ما يتم الاستناد فيها إلى أدلة شرعية.
لكن النقطة الأشد غموضًا وتكرارًا في آن هي تلك التي تتعلق بتحديد الثوابت والفروع، ففي أكثر من موضع في الدليل يتم التأكيد على أن التجديد لا يعني بحال من الأحوال إضافة ما هو جديد إلى ثوابت الدين(3) وكفى!! وهكذا لا يتم تحديد أو توضيح مثل هذه الثوابت، وما إذا كان المقصود بها الأركان الخمسة المتعارف عليها؟ أم لا؟ وما الذي يدخل ضمن المعلوم من الدين بالضرورة وما الذي يخرج عنه؟ ألا يوجد اختلاف حول تحديد ما هو ثابت وما هو متغير؟!، وهل يتساوى في ذلك كل من الإنكار عن جهل والإنكار عن عمد؟. كل هذه مسائل بقيت دون توضيح وفي تركها هكذا إخلال منهجي يحسب على الدليل.
وفي السياق ذاته، يعرف د. حمدي زقزوق التجديد بأنه "تجديد يتوقف على فهم الواقع من أجل الكشف عما فيه من سلبيات للانطلاق من ذلك الفهم إلى تصحيح الأوضاع وتمهيد السبيل لإثراء الحياة بالمزيد من الإبداع الذي يضيف جديدًا إلى دنيا الناس في جميع المجالات؛ الأمر الذي من شأنه أن يصلح لهم دينهم ودنياهم على السواء"(4).
في مقابل ذلك، يطرح د. عمارة مفهومًا آخر للتجديد يعبر في مجمله عن تيار الوسطية الإسلامية "الذي يقيم عقلانيته على كتابي "الوحي" و"الوجود" على نور الشرع ونور العقل، لتكون عقلانيته هذه عقلانية مؤمنة متوازنة، العقل فيها هو الأساس، والدين فيها هو البناء على هذا الأساس"(5).
رابعا: في نقد الطرح السلفي لمفهوم التجديد:
وفي كل الأحوال، يغلب الطرح السلفي لمفهوم التجديد على الطرح العقلاني، والذي لم يسلم هو الآخر من بعض الهفوات كاستخدام المعايير المزدوجة في الحكم على بعض الفرق والآراء وما إلى ذلك على نحو ما سنعرف لاحقا.
وقبل أن نبحث هنا أهم مجالات التجديد وقضاياه الدينية بالدليل، سنعمل بداية على إبراز نقطتين رئيستين في معالجتنا هذه، الأولى: تتعلق بنقد رؤية الدليل لمفهوم التجديد وماهيته. والثانية: تتمثل في نقد بعض الأهداف المأمولة من وراء التجديد، كما هي واردة في الدليل.
بداية يمكن القول إن ثمة انتكاسة حقيقة في فهم ماهية التجديد في الجزء الأكبر من الدليل. حيث يسوي الشيخ سالم عبد الجليل بين كل من معنى السلفية والتجديد!! وفي هذا يقول: "إن اكتمال الدين وتجديده.. وبتعبير آخر السلفية والتجديد مصطلحان يرمزان -في عرف بعض الباحثين- إلى نسقين متقابلين، بل ومتناقضين، في الرؤية والمنهج والتفكير والثمرات ولا يتصورون علاقة وفاق أو اتفاق أو تكامل بين اكتمال الدين وتجديده أو بين السلفية والتجديد"(6).
فما المقصود بالسلفية هنا: هل المقصود بها ما يُتعارف عليه باسم مذهب أهل السنة والجماعة؟ أم المذهب الوهابي؟ أم المقصود بها الالتزام الحرفي بنسق القيم والعادات والتقاليد السلفية والتي بات البعض يختزلها في إطالة اللحى وتقصير الملبس؟. وفي حالة الاحتكام الكلي إلى مرجعية واحدة داخل المُدرك الإسلامي في الواقع، كالمذهب السلفي في حالتنا هذه، فما موقف هذه المرجعية من باقي المرجعيات الأخرى كالشيعة والمتصوفة وغيرهما؟!! هل سيتم النظر إليها باعتبارها كافرة وخارجة عن حدود الإسلام ومن ثم يتم إعلان الحرب التكفيرية عليها؟ أم سيتم النظر إليها، وفي أحسن الأحوال، باعتبارها فرقا ضالة عن الهدي الإسلامي وتدعو لها بالرشاد؟!.
نعم نحن نؤكد هنا أنه وفق "التصور السلبي الشائع عند العامة عن السلفية" لا يوجد أدنى صلة بينها وبين التجديد.. فهل من الممكن تصور إمكانية التجديد في ظل سيادة مثل هذه المفاهيم المطاطة؟ وهل من الممكن إنزال الفقه على الواقع في ظل إنزال الواقع على الفقه وبدونة الإسلام؟.
كيف يمكن النظر إلى الحاضر والمستقبل باعتبارهما أملا في التطور فيما الفكر والعقل مشدودان إلى عقال وأسر لحظة تاريخية تبدو بزعمهم غير قابلة للتكرار؟!. أين موقع الحديث إذن عن سنن الحياة وضرورة عدم التقوقع في مرحلة تاريخية محددة دون غيرها في منظومة هذه التصورات الجامدة؟! ألا تعكس النظرة الإستاتيكية للحظة عصري النبوة والخلافة الراشدة بدورها جمودًا يقع على الضد من معنى التجديد؟!.
(1) انظر في ذلك الصفحات: 7، 13، 14، 62، 63، 251، على سبيل المثال.
(2) ص 19.
(3) انظر على سبيل المثال: ص 19، 20، 21، 53.
(4) ص 63.
(5) ص 178، 179.
(6) راجع المبحث الأول: تعريف التجديد وتحديد ماهيته، وبخاصة الصفحات: 25-30.
** مدير تحرير مجلة رواق عربي المصدر: وسطية أون لاين