لَحَظَات مَع أَبِي بَكْر وَإِيْمَانِه بِالْلَّه إِنَّ سُنَّةَ الِابْتِلَاءِ مَاضِيَةٌ فِيْ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتَ وَالْشُّعُوْبِ وَالْأُمَمِ وَالْدُّوَلِ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْسَّنَةِ فِيْ الْصَّحَابَةِ الْكِرَامِ وَتَحَمَّلُوْا رِضْوَانَ الّلَهِ عَلَيْهِمْ مِّنَ الْبَلَاءِ مَاتَنُوءِ بِهِ الْرَّوَاسِيَ الْشَّامِخَاتِ وَّبَذَلُوْا أَمْوَالَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ فِيْ سَبِيِلِ الْلَّهِ، وَبَلَغَ بِهِمْ الْجَهْدَ مَاشَاءَ الْلَّهُ أَنْ يَبْلُغَ، وَلَمْ يُسْلِمْ أَشْرَافِ الْمُسْلِمِيْنَ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ، فَلَقَدْ أُوْذِيَ أَبُوْ بَكْرٍ وَحُثِيَ عَلَىَ رَأْسِهِ الْتُّرَابَ، وَضَرَبَ فِيْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْنِّعَالِ، حَتَّىَ مَايُعْرُفْ وَجْهَهُ مِنْ أَنْفِهِ، وَحَمَلَ الَىَّ بَيْتِهِ فِيْ ثَوْبِهِ وَهُوَ مَابَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ ، فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ الْلَّهُ تَعَالَىْ عَنْهَا أَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ الْنَّبِيِّ وَكَانُوْا ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِيَنَّ رَجُلا الُحَّ أَبُوْ بَكْرٍ عَلَىَ رَسُوْلِ الْلَّهِ فِيْ الْظُّهُورِ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّا قَلِيْلٌ. فَلَمْ يَزَلْ أَبُوْ بَكْرٍ يُلِحُّ حَتَّىَ ظَهَرَ رَسُوْلُ الْلَّهِ ، وَتَفَرَّقَ الْمُسْلِمِيْنَ فِيْ نَوَاحِيْ الْمَسْجِدِ كُلُّ رُجُلٍ فِيْ عَشِيْرَتِهِ، وَقَامَ أَبُوْ بَكْرٍ فِيْ الْنَّاسِ خَطِيْبَا وَرَسُوْلُ الْلَّهِ جَالِسٌ، فَكَانَ أَوَّلَ خَطِيْبٌ دَعَا إِلَىَ الْلَّهِ تَعَالَىْ وَإِلَىَ رَسُوْلِهِ ، وَثَارَ الْمُشْرِكُوْنَ عَلَىَ أَبِيْ بَكْرٍ وَعَلَىَ الْمُسْلِمِيْنَ، فَضَرَبُوْهُ فِيْ نَوَاحِيْ الْمَسْجِدِ ضَرْبَا شَدِيْدَا، وَوَطِئَ أَبُوْ بَكْرٍ وَضُرِبَ ضَرْبَا شَدِيْدَا، وَدَنَا مِنْهُ الْفَاسِقُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيْعَةَ فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِنَعْلَيْنِ مَخْصُوْفَتَيْنِ (أي مرقعتين ) وَيُحَرِّفُهُمَا لِوَجْهِهِ، وَنَزَا عَلَىَ بَطْنِ أَبِيْ بَكْرٍ، حَتَّىَ مَايُعْرُفْ وَجْهَهُ مِنْ أَنْفِهِ، وَجَاءَتْ بَنُوْ تَمِيْمٍ يَتَعَادُونَ فَأَجْلَتْ الْمُشْرِكِيْنَ عَنْ أَبِيْ بَكْرٍ، وَحَمَلْتُ بَنُوْ تَمِيْمٍ أَبَا بَكْرٍ فِيْ ثَوْبٍ حَتَّىَ أَدْخَلُوهُ مَنْزِلَهُ، وَلايَشُكُونَ فِيْ مَوْتِهِ، ثُمَّ رَجَعَتْ بَنُوْ تَمِيْمٍ فَدَخَلُوْا الْمَسْجِدَ وَقَالُوْا: وَاللَّهُ لَئِنْ مَاتَ أَبُوْ بَكْرٍ لَنَقْتُلّنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيْعَةَ فَرَجَعُوَا إِلَىَ أَبِيْ بَكْرٍ فَجَعَلَ أَبُوْ قُحَافَةُ (وَالِدِهِ) وَبَنُوْ تَيْمٍ يُكَلِّمُونَ أَبَا بَكْرٍ حَتَّىَ أَجَابَ، فَتَكَلَّمَ آَخَرَ الْنَّهَارِ فَقَالَ: مَافَعَلَ رَسُوْلُ الْلَّهِ ؟ فَمَسُّوا مِنْهُ بِأَلْسِنَتِهِمُ وَعَذَلُوهُ، وَقَالُوْا لِأُمِّهِ أُمِّ الْخَيِرِ: انْظُرِيْ أَنْ تُطْعِمِيهِ شَيْئَا أَوْ تُسْقِيْهِ إِيَّاهُ. فَلَمَّا خَلَتْ بِهِ أَلَحَّتْ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ يَقُوْلُ: مَافَعَلَ رَسُوْلُ الْلَّهِ ؟ فَقَالَتْ: وَالْلَّهُ مَالِيَ عِلْمٌ بِصَاحِبِكَ. فَقَالَ: اذْهَبِيْ إِلَىَ أُمِّ جَمِيْلٍ بِنْتِ الْخَطَّابِ فَاسْأَلِيْهَا عَنْهُ، فَخَرَجْتُ حَتَّىَ جَاءَتْ أُمَّ جَمِيْلٍ، فَقَالَتْ: إِنِ أَبَا بَكْرٍ سَأَلُكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِاللّهِ. فَقَالَتْ: مَا أَعْرِفُ أَبَا بَكْرٍ وَلامُحَمّدّ بْنِ عَبْدِاللّهِ، وَإِنْ كُنْتِ تُحِبِّيْنَ أَنْ أَذْهَبَ مَعَكَ إِلَىَ ابْنِكَ. قَالَتْ: نَعَمْ، فَمَضَتْ مَعَهَا حَتَّىَ وَجَدَتْ أَبَا بَكْرٍ صَرِيْعَا دَنِفَا، فَدَنَتْ أُمُّ جَمِيْلٍ، وَأَعْلَنْتُ بِالصِّيَاحِ، وَقَالَتِ: وَالْلَّهُ إِنَّ قَوْمِا نَالُوْا مِنْكَ لِأَهَلِ فِسْقٍ وَكُفْرٍ إِنَّنِيْ لُأَرْجُوَا أَنْ يَنْتَقِمَ الْلَّهُ لَكَ مِنْهُمْ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ رَسُوْلُ الْلَّهِ ؟ قَالَتْ: هَذِهِ أُمُّكَ تَسْمَعُ، قَالَ: فَلَاشَيْءَ عَلَيْكَ مِنْهَا، قَالَتْ: سَالِمٍ صَالِحٍ، قَالَ: أَيْنَ هُوَ؟ قَالَتْ: فِيْ دَارِ الْأَرْقَمِ. قَالَ: فَإِنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَذُوْقُ طَعَاما وَلَا أَشْرَبُ شَرَابِا أَوْ آَتِيَ رَسُوْلَ الْلَّهِ ، فَأَمْهَلَتا حَتَّىَ إِذَا هَدَأَتْ الْرِّجْلُ وَسَكَنَ الْنَّاسُ، خَرَجَتَا بِهِ يَتَّكِئُ عَلَيْهِمَا، حَتَّىَ أَدْخَلَتَاهُ عَلَىَ رَسُوْلِ الْلَّهِ ، فَقَالَ: فَأَكَبَّ عَلَيْهِ رَسُوْلُ الْلَّهِ فَقَبِلَهُ، وَأَكَبَّ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُوْنَ، وَرِقَّ لَهُ رَسُوْلُ الْلَّهِ رِقَّةٌ شَدِيْدَةٍ فَقَالَ أَبُوْ بَكْرٍ : بِأَبِيْ وَأُمِّيَ يَارَسُوْلَ الْلَّهِ، لَيْسَ بِيَ بَأْسٌ إِلَا مَا نَالَ الْفَاسِقُ مِنْ وَجْهِيَ، وَهَذِهِ أُمِّيَّ بَرَّةَ بِوَلَدِهَا وَأَنْتَ مُبَارَكٌ فَادْعُهَا إِلَىَ الْلَّهِ، وَأَدَعُ الْلَّهُ لَهَا عَسَىَ الْلَّهُ أَنْ يَسْتَنْقِذَهَا بِكَ مِنَ الْنَّارِ. قَالَ: فَدَعَا لَهَا رَسُوْلُ الْلَّهِ وَدَعَاهَا إِلَىَ الْلَّهِ فَأَسْلَمَتْ .
إِنِ هَذَا الْحَدَثَ الْعَظِيْمِ فِيْ طَيَّاتِهِ دُرُوْسَ وَعَبَرَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ حَرِيْصٌ عَلَىَ الِاقْتِدَاءِ بِهَؤُلَاءِ الْصَّحْبِ الْكِرَامِ وَنُحَاوِلُ أَنْ نَسْتَخْرِجْ بَعْضٌ هَذِهِ الْدُّرُوسِ الَّتِيْ مِنْهَا:
1-حَرَصَ الْصَّدِيقُ عَلَىَ إِعْلَانِ الْإِسْلَامِ وَاظْهَارِهُ أَمَامَ الْكُفَّارِ وَهَذَا يَدُلّ عَلَىَ قُوَّةً إِيْمَانِهِ وَشَجَاعَتُهُ وَقَدْ تَحَمَّلَ الْأَذَى الْعَظِيمِ حَتَّىَ أَنَّ قَوْمَهُ كَانُوْا لَايَشْكُوَنَّ فِيْ مَوْتِهِ، لَقَدْ أُشْرِبَ قَلْبُهُ حُبَّ الْلَّهِ وَرَسُوْلِهِ أَكْثَرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَعُدْ يَهُمُّهُ -بَعْدَ إِسْلَامِهِ- إِلَا أَنْ تَعْلُوَا رَايَةَ الْتَّوْحِيْدِ، وَيَرْتَفِعُ الْنِّدَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا الْلَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ الْلَّهِ فِيْ أَرْجَاءِ مَكَّةَ حَتَّىَ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ حَيَاتِهِ، وَكَادَ أَبُوْ بَكْرٍ فِعْلَا أَنَّ يَدْفَعُ حَيَاتَهُ ثَمَنَا لِعَقِيْدَتِهِ وَإِسْلَامُهُ.
2- حَبَّ الْلَّهَ وَرَسُوْلَهُ تَغَلْغَلَ فِيْ قَلْبِ أَبِيْ بَكْرٍ عَلَىَ حُبِّهِ لِنَفْسِهِ، بِدَلِيْلِ أَنَّهُ رَغْمَ مَا أَلَمٌ بِهِ، كَانَ أَوَّلُ مَا سَأَلَ عَنْهُ: مَافَعَلَ رَسُوْلُ الْلَّهِ ، قَبْلَ أَنْ يَطْعَمُ أَوْ يَشْرَبَ، وَأَقْسَمَ أَنَّهُ لَنْ يَفْعَلَ حَتَّىَ يَأْتِيَ رَسُوْلُ الْلَّهِ ، وَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُوْنَ حَبَّ الْلَّهَ وَرَسُوْلَهُ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ أُحِبُ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا حَتَّىَ لَوْ كَلَّفَهُ ذَ لِكَ نَفْسِهِ وَمَالِهِ .
3 - يُظْهِرُ بِرَ الْصِّدِّيقِ بِأُمِّهِ وَحِرْصَهُ عَلَىَ هِدَايَتِهِا فِيْ قَوْلِهِ لِرَسُوْلِ الْلَّهِ : هَذِهِ أُمِّيَّ بَرَّةَ بِوَلَدِهَا وَأَنْتَ مُبَارَكٌ فَادْعُهَا إِلَىَ الْلَّهِ وَادْعُ الْلَّهَ لَهَا عَسَىَ أَنْ يَسْتَنْقِذَهَا بِكَ مِنَ الْنَّارِ. إِنَّهُ الْخَوْفْ مِنْ عَذَابِ الْلَّهِ وَالرَّغْبَةِ فِيْ رِضَاهُ وَجَنَّتِهِ، وَلَقَدْ دَعَا رَسُوْلُ الْلَّهِ لِأُمِّ أَبِيْ بَكْرٍ بِالْهِدَايَةِ فَاسْتَجَابَ الْلَّهُ لَهُ، وَأَسْلَمْتُ أَمْ أَبِيْ بَكْرٍ وَأَصْبَحْتُ مِنْ ضِمْنِ الْجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنَةِ الْمُبَارَكَةٍ الَّتِيْ تَسْعَىَ لِنَشْرِ دِيَنِ الْلَّهِ تَعَالَىْ ,
مِنْ صِفَاتِ الْصِّدِّيقِ الَّتِيْ تُمَيِّزُ بِهَا: الْجُرْأَةَ وَالشَّجَاعَةِ، فَقَدْ كَانَ لايُهَابِ أَحَدا فِيْ الْحَقِّ، وَلَاتَأْخُذُهُ لَوْمَةَ لَائِمٍ فِيْ نُصْرَةِ دِيَنِ الْلَّهِ وَالْعَمَلُ لَهُ وَالْدِّفَاعِ عَنْ رَسُوْلِهِ فَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْزُّبَيْرِ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِوٍ بْنِ الْعَاصِ بِأَنَّ يُخْبِرُنِي بِأَشَدِّ شَئٍ صَنَعَهُ الْمُشْرِكُوْنَ بِالْنَّبِيِّ فَقَالَ: بَيْنَمَا الْنَّبِيُّ يُصَلِّيَ فِيْ حِجْرِ الْكَعْبَةِ، إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِيْ مُعَيْطٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِيْ عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنِقا شَدِيْدا، فَأَقْبَلَ أَبُوْ بَكْرٍ حَتَّىَ أَخَذَ بِمَنْكِبَيْهِ وَدَفَعَهُ عَنِ الْنَّبِيِّ وَقَالَ: (أَتَقْتُلُوْنَ رَجُلا أَنْ يَقُوْلَ رَبِّيَ الْلَّهُ) (غَافِرِ، آَيَةً:28). وَأَمَّا فِيْ حَدِيْثِ عَلِيٍّ بْنِ أَبِيْ طَالِبٍ فَقَدْ قَامَ خَطِيْبَا وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ مَنْ أَشْجَعُ الْنَّاسِ؟ فَقَالُوَا: أَنْتَ يَا أَمِيْرَ الْمُؤْمِنِيْنَ فَقَالَ: أَمَا إِنِّيَ مَابَارَزْنِيّ أَحَدٌ إِلَا انْتَصَفَتُ مِنْهُ، وَلَكِنَّ هُوَ أَبُوْ بَكْرٍ، إِنَّا جَعَلْنَا لِرَسُوْلِ الْلَّهِ عَرِيَشَا فَقُلْنَا مَنْ يَكُوْنُ مَعَ رَسُوْلِ الْلَّهِ لِئَلَّا يَهْوِيِ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ، فَوَاللَّهِ مَادِنا مِنْهُ أَحَدٌ إِلَّا أَبُوْ بَكْرٍ شَاهِرَا بِالْسَّيْفِ عَلَىَ رَأْسِ رَسُوْلِ الْلَّهِ ، لايَهْويّ إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَا أَهْوَىْ إِلَيْهِ فَهَذَا أَشْجَعُ الْنَّاسِ. قَالَ وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُوْلَ الْلَّهِ وَأَخَذَتْهُ قُرَيْشٍ فَهَذَا يُحَادُّهُ، وَهَذَا يُتِلْتِلُهُ وَيَقُوْلُوْنَ أَنْتَ جَعَلْتَ الْآَلِهَةَ إِلَهَا وَاحِدَا فَوَاللَّهِ مَادِنا مِنْهُ أَحَدٌ إِلَّا أَبُوْ بَكْرٍ يَضْرِبُ وَيُجَاهِدُ هَذَا وَيُتَلْتِلُ هَذَا، وَهُوَ يَقُوْلُ: وَيْلَكُمْ أَتَقْتُلُوْنَ رَجُلا أَنْ يَقُوْلَ رَبِّيَ الْلَّهُ ثُمَّ رَفَعَ عَلِي بُرْدَةَ كَانَتْ عَلَيْهِ فَبَكَىّ حَتَّىَ اخْضَلّتْ لِحْيَتُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمْ الْلَّهَ أَمُؤْمِنُ آَلِ فِرْعَوْنَ خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ فَبَكَتْ الْقَوْمِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: فَوَاللَّهِ لَسَاعَةٌ مِنْ أَبِيْ بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنٍ آَلِ فِرْعَوْنَ، ذَاكَ رَجُلٌ يَكْتُمُ إِيْمَانَهُ وَهَذَا رَجُلٌ أَعْلَنَ إِيْمَانَهُ .
هَذِهِ صُوْرَةُ مُشْرِقَةً تَبَيَّنَ وَتُوَضِّحَ مَاتِحْمِلَهُ الْصِّدِّيقِ مِنَ الْأَلَمِ وَالْعَذَابَ فِيْ سَبِيِلِ الْلَّهِ تَعَالَىْ كَمَا تُعْطِيَ مَلَامِحْ وَاضِحَةٌ عَنْ شَخْصِيَّتُهُ الْفَذَّةُ، وَشَجَاعَتُهُ الْنَّادِرَةِ الَّتِيْ شَهِدَ لَهُ بِهَا الْإِمَامُ عَلِيٌّ فِيْ خِلَافَتِهِ أَيُّ بُعْدٍ عُقُوْدُ مِنَ الْزَّمَنِ، وَقَدْ تَأَثَّرَ عَلَيَّ حَتَّىَ بَكَىَ وَأَبْكَىَ .
وخرج النسائى عَن عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِي الْلَّه عَنْه وَقَد ذَكَر عِنْدَه أَبُو بَكْر فَبَكَى وَقَال وَدِدْت لَو أَن عَمَلِي كُلَّه مِن عَمَلِه يَوْمَا وَاحِدَا مِن أَيّامِه وَلَيْلَة مِن لَيَالِيْه وَأَمَّا الْلَّيْلَة فَلَيْلَة سَار مَع رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَيْه وَسَلَّم إِلَى الْغَار فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَيْه قَال وَالْلَّه لَا تَدْخُلُه حَتَّى أَدْخَل قَبْلِك فَإِن كَان فِيْه شَيْء أَصَابَنِي دُوْنَك فَدَخَلَه فَكَسَحَه وَوَجَد فِي جَوَانِبُه ثُقْبَا فَشَق إِزَارَه وُسِّد بِهَا تِلْك الثُّقَب وَبَقِي مِنْهَا اثْنَان فَأَلقْمْهُما رِجْلَه ثُم قَال لِرَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم ادْخُل فَدَخَل رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَوَضَع رَأْسَه فِي حِجْرِه فَنَام فَلُدِغ أَبُو بَكْر فِي رِجْلِه مَن الْجُحْر فَلَم يَتَحَرَّك مَخَافَة أَن يَسَتَنْبِه رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَسَقَطَت دُمُوْعُه عَلَى وَجْه رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَانْتَبَه رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَقَال مَا لَك يَا أَبَا بَكْر قَال لَدَغَت فِدَاك أَبِي وَأُمِّي فَتَفَل عَلَيْه رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَذَهَب مَا يَجِدُه
وأما يومه يَوْم أن دُعِي الْرَّسُوْل إِلَى الْرَّفِيْق الْأَعْلَى، يَوْم تَلَفَّت الْمُسْلِمُوْن فَجْأَة ، فَلَم يَرَوْا بَيْنَهُم الْحَبِيْب الْمُصْطَفَى وَالْأَب الْرَّحِيْم الَّذِي كَان يَمْلَأ جَوَانِحِهِم حَنَانا وَالْنُّوْر الَّذِي كَان يَمْلَأ وَجُوْدُهُم ضِيَاء، يَوْمَئِذ تَكَشَّف جَوْهَر الإِيْمَان؛ إِيْمَان رَجُل صِدِّيْق،
وَقَف أَبُو بَكْر أَو بِتَعْبِيْر أَدَق: وَقَف إِيْمَان أَبِي بَكْر يَوْم وَفَاة الْرَّسُوْل وَقْفَة مَا كَان يُقَدِّر عَلَيْهَا سِوَاه. ولنرجع قليلا قبيل وفاة الرسول فَبَعْد أَن صَلَّى أَبُو بَكْر بِالْمُسْلِمِيْن عَاد الْرَّسُوْل فِي حُجْرَتِه وَاسْتَأْذَن أَبُو بَكْر رَسُوْل الْلَّه فِي أَن يَغِيْب عَنْه بَعْض الْوَقْت، وَذَهَب أَبُو بَكْر إِلَى دَارِه بِالْعَالِيَة فِي أَقْصَى الْمَدِيْنَة، وَمَضَى وَقْت لَيْس بِالْطَّوِيْل قَضَى فِيْه بَعْض حَاجَات أَهْلِه، وَإِذَا هُو يَتَهَيَّأ لِلْعَوْدَة إِلَى رَسُوْل الْلَّه ، وَإِذَا الْنَّاعِي يَقْطَع الْأَرْض إِلَيْه وَثْبا، وَيُلْقِي عَلِيِّه الْنَّبَأ الَّذِي تَخِر لَه الْجِبَال هَدا. حَمْد وَاسْتَرْجَع، وَاخْتَلَطَت دُمُوْعُه الْهَاطِلَة بِكَلِمَاتِه وَهُو يَقُوْل: إِنَّا لِلَّه وَإِنَّا إِلَيْه رَاجِعُوْن.
وَسَار نَحْو بَيْت رَسُوْل الْلَّه ، رَابَط الْجَأْش قَوِي الْجَلَد، وَلَم يَكَد يَقْتَرِب مِن الْمَسْجِد حَتَّى رَأَى الْفَاجِعَة الْكُبْرَى. لَقَد فَقَد الْمُسْلِمُوْن صَوَابُهُم حَتَّى ابْن الْخَطَّاب الْقَوِي الْرَّاسِخ وَقَف بَيْن الْنَّاس شَاهِرا سَيْفَه صَائِحا: إِن رِجَالْا مِن الْمُنَافِقْين يَزْعُمُوْن أَن رَسُوْل الْلَّه مَات، وَإِنَّه مَا مَات، وَلَكِنَّه ذَهَب إِلَى رَبِّه كَمَا ذَهَب مُوْسَى بْن عِمْرَان، وَالْلَّه لِيَرْجِعَن رَسُوْل الْلَّه، فَلَيُقَطّعُن أَيْدِي رِجَال زَعَمُوْا أَنَّه مَات، أَلَا لَا أَسْمَع أَحَدا يَقُوْل: إِن رَسُوْل الْلَّه مَات إِلَا فَلَقْت هَامَتِه بِسَيْفِي هَذَا. تِلْك كَانَت حَال عُمَر، فَكَيْف كَان حَال سِوَاه؟!
لَقَد كَان مَوْت رَسُوْل الْلَّه فَاجِعَة عَظِيْمَة لِلْمُسْلِمِيْن عَلَى الْرَّغْم مِن سَابِق مَرَضِه ، كَأَنَّهُم مَا تَصَوَّرُوْا أَبَدا أَن يُقَال لَهُم ذَات يَوْم: مَات الْرَّسُوْل. فَلَمَّا أُنَفِّذ الْلَّه أَمْرَه وَاخْتَار لِجِوَارِه رَسُوْلَه وَكَتَب عَلَى الْنَّاس أَن يَسْمَعُوْا فِي لُجَج مِن الْهَوْل وَالْأَسَى كَلِمَة الْمَوْت مُقْتَرِنَة بِكَلِمَة الْرَّسُوْل طَار مِنْهُم صَوَابُهُم. وَلَقَد كَان أَبُو بَكْر أُحِق الْنَّاس بِأَكْبَر قُدَر مَن الْأَسَى وَالَذُّهُوْل وَالْكَمَد عَلَى حَبِيْبِه؛ فَهُو صَدِيْق الْعُمْر لِمُحَمَّد مُنْذ طُفُوْلَة الْحَيَاة وَشَّبَابَهَا، وَهُو صِدِّيْقُه مُنْذ أَوّل أَيَّام الْوَحْي وَالْدِّيْن، وَهُو قَد أَحَبَّه حُبا وَآخَاه مُؤَاخَاة تَجْعَل الْصَّبُر عَلَى فِرَاقِه فَوْق طَاقَات الْبَشَر، لَكِن أَبَا بَكْر كَان يَبْدُو كَأَنَّه لَا تُحَرِّكُه طَاقَات بَشَرِيَّة، بَل قُوَى إِيْمَانِيَّة، فَتَنَزَّلَت عَلَى قَلْبِه سَكِيْنَة عَظِيْمَة كَمَا تَنَزَّلَت عَلَيْه يَوْم الْغَار الْسَّكِينَة.
وَلْنَدَع شَاهِد عِيَان يَصِف لَنَا ثُبَات أَبِي بَكْر عِنْد الْصَّدْمَة الْأُوْلَى: أَقْبَل أَبُو بَكْر يُكَلِّم الْنَّاس، فَلَم يَلْتَفِت إِلَى شَيْء، وَدَخَل عَلَى رَسُوْل الْلَّه وَهُو مسجّى فِي نَاجِيَة الْبَيْت، عَلَيْه بُرْد حَبِرَة، فَكَشَف عَن وَجْهِه، ثُم قَبَّلَه وَقَال: بِأَبِي أَنْت وَأُمِّي، طِبْت حَيا وَمَيِّتا، إِن الْمَوْتَة الَّتِي كَتَبَهَا الْلَّه عَلَيْك قَد مِتَّهَا. ثُم خَرَج وَعُمَر يُكَلّم الْنَّاس فَدَعَاه لِلْسُّكُوْت، فَأَبَى عُمَر إِلَا أَن يَسْتَرْسِل فِي قَوْلِه، فَلَمَّا رَآَه أَبُو بَكْر لَا يَنْصِت أَقْبَل عَلَى الْنَّاس يُكَلِّمُهُم، فَلَمَّا سَمِعُوْه أَقْبَلُوَا عَلَيْه مُنْصِتِين، فَحَمِد الْلَّه وَأَثْنَى عَلَيْه ثُم قَال: أَيُّهَا الْنَّاس، مَن كَان يَعْبُد مُحَمَّدا فَإِن مُحَمَّدا قَد مَات، وَمَن كَان يَعْبُد الْلَّه فَإِن الْلَّه حَي لَا يَمُوْت، ثُم تَلَا قَوْل الْلَّه تَعَالَى: وَمَا مُحَمَّد إِلَا رَسُوْل قَد خَلَت مِن قَبْلِه ٱلَرُّسُل أَفَإِيْن مَّات أَو قُتِل ٱنْقَلَبْتُم عَلَىٰ أَعْقـٰبِكُم وَمَن يَنْقَلِب عَلَىٰ عَقِبَيْه فَلَن يَضُر ٱلَلَّه شَيْئا وَسَيَجْزِى ٱلَلَّه ٱلَشـٰكِرِيْن [آَل عِمْرَان:144]. فَوَاللَّه، لَكَأَن الْنَّاس يَسْمَعُوْن هَذِه الْآَيَة لِأَوَّل مَرَّة، أَمَّا عُمَر فَقَد وَقَع عَلَى الْأَرْض حِيْن عَلِم مِن كَلِمَات أَبِي بَكْر أَنَّه الْمَوْت حَقا. أَفِي هَذِه اللَّحَظَات الذَّاهِلَة وَالفاجَعَة الْمُزَلْزِلَة يَكُوْن مِثْل هَذَا الثَّبَات؟! (مَن كَان يَعْبُد مُحَمَّدا فَإِن مُحَمَّدا قَد مَات، وَمَن كَان يَعْبُد الْلَّه فَإِن الْلَّه حَي لَا يَمُوْت). إِنَّهَا كَلِمَات تُوَصِّي بِالْصَّبْر، وَتُمْنَح الْعَزَاء لِمَن حَضَرُوْا ذَلِك الْيَوْم وَلِلْأَمَة كُلِّهَا بَعْد رَسُوْل الْلَّه . قَال رَسُوْل الْلَّه : ((إِذَا أَصَاب أَحَدَكُم مُصِيَبَة فَلْيَذْكُر مُصَابَه بِي؛ فَإِنَّهَا مِن أَعْظَم الْمَصَائِب)) رَوَاه الْدَّارِمِي
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُوْن، لَقَد عِشْنَا لَحَظَات مَع أَبِي بَكْر وَإِيْمَانِه بِالْلَّه، فَلْنَتَّخِذ مِن هَذَا الإِيْمَان مِشْعَلا، وَلْنَسْتَفِد مِن مَنَاقِبِه دُرُوْسا فِي حُب الْلَّه وَرَسُوْلِه وَكَيْف يَكُوْن هَذَا الْحُب وَالْإِيْمَان، وَدُرُوْسا فِي الْتَّقْوَى، وَدُرُوْسا فِي الْصَّبْر، وَدُرُوْسا فِي الثَّبَات،