مِنْ أَعْظَمِ أَعْمَالِهِ سَبَقَهُ إِلَىَ الْإِسْلَامِ وَهِجْرَتُهُ مَعَ الْنَّبِيِّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَثَبَاتِهِ يَوْمَ مَوْتِ الْنَّبِيِّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمَنْ أَعْمَالِهِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ أَنَّهُ أَعْتَقَ سَبْعَةً كُلُّهُمْ يُعَذِّبُ فِيْ الْلَّهِ ، وَهُمْ : بِلَالٍ بْنِ أَبِيْ رَبَاحٍ ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ ، وَزِنِّيرَةُ ، وَالْنَّهْدِيَّة وَابْنَتِهَا ، وَجَارِيَةٌ بَنِيَّ الْمُؤَمَّلِ ، وَأُمُّ عُبَيْسِ .
وَمِنَ أَعْظَمُ أَعْمَالِهِ الَّتِيْ قَامَ بِهَا بَعْدَ تَّوَلِّيْهِ الْخِلَافَةِ حَرْبٍ الْمُرْتَدِّيْنَ , فَقَدْ كَانَ رَجُلا رَحِيْما رَقِيْقَا وَلَكِنَّهُ فِيْ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ ، فِيْ مَوْقِفِ حَرْبٍ الْمُرْتَدِّيْنَ كَانَ أَصْلَبَ وَأَشَدُّ مِنَ عُمَرَ رَضِيَ الْلَّهُ عَنْهُ الَّذِيْ عُرِفْ بِالْصَّلابَةِ فِيْ الْرَّأْيِ وَالْشَّدَّةِ فِيْ ذَاتِ الْلَّهِ : رَوَىَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيْثٌ أُبَيّ هُرَيْرَةَ رَضِيَ الْلَّهُ عَنْهُ قَالَ : لِمَا تُوَفَّى الْنَّبِيِّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُوْ بَكْرٍ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ : يَا أَبَا بَكْرٍ كَيْفَ تُقَاتِلُ الْنَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الْنَّاسَ حَتَّىَ يَقُوْلُوْا لَا إِلَهَ إِلَّا الْلَّهُ ، فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا الْلَّهُ عَصَمَ مِنِّيْ مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَىَ الْلَّهِ ؟ قَالَ أَبُوْ بَكْرٍ : وَالْلَّهُ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْزَّكَاةِ ، فَإِنَّ الْزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ ، وَالْلَّهُ لَوْ مَنَعُوْنِيْ عَنَاقا كَانُوْا يُؤَدُّوْنَهَا إِلَىَ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَىَ مَنْعِهَا . قَالَ عُمَرُ : فَوَ الْلَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ أَنْ قَدْ شَرَحَ الْلَّهُ صَدْرَ أَبِيْ بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ .
لَقَدْ سُجِّلَ هَذَا الْمَوْقِفِ الْصُّلْبِ الْقَوِيِّ لِأَبِيْ بَكْرٍ رَضِيَ الْلَّهُ عَنْهُ , فَحَارَبَ رَضِيَ الْلَّهُ عَنْهُ الْمُرْتَدِّيْنَ وَمَانِعِيِّ الْزَّكَاةَ ، وَقَتَلَ الْلَّهُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ فِيْ زَمَانِهِ . وَفِيْ عَهْدِهِ فُتِحَتْ فُتُوْحَاتِ الْشَّامِ ، وُفُتُوْحَاتٌ الْعِرَاقِ
لَقَدْ تَحَدَّثَ الْرَّسُوْلُ فِيْمَا بَعْدُ كَثِيِرا عَنْ أَبِيْ بَكْرٍ، وَكَانَ مِمَّا قَالَ عَنْهُ: ((مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ كَافَيْنَاهُ مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدا يُكَافِيْهِ الْلَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِيْ مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِيْ مَالُ أَبِيْ بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتَ مُتَّخِذا خَلِيْلَا لَاتَّخّذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيْلَا، أَلَا وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيْلُ الْلَّهِ)) رَوَاهُ الْتِّرْمِذِيُّ , وَفِيْ رِوَايَةٍ: فَبَكَىّ أَبُوْ بَكْرٍ وَقَالَ: هَلْ أَنَا وَمَالِيْ إِلَّا لَكَ يَا رَسُوْلَ الْلَّهِ؟! رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَعَنْ أَبِيْ أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ الْلَّهِ : ((دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ فِيْهَا خَشْفَةً بَيْنَ يَدَيَّ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: بِلَالٍ، قَالَ: فَمَضَيْتُ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِيْنَ وَذَرَارِيْ الْمُسْلِمِيْنَ، وَلَمْ أَرَ أَحَدا أَقَلَّ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْنِّسَاءِ، قِيَلَ لِيَ: أَمَّا الْأَغْنِيَاءُ فَهُمْ هَا هُنَا بِالْبَابِ يُحَاسَبُونَ وَيُمَحَّصُونَ، وَأَمَّا الْنِّسَاءُ فَأَلْهَاهُنَّ الْأَحْمَرَانِ الْذَّهَبُ وَالْحَرِيْرُ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجْنَا مِنْ أَحَدٍ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَّةُ، فَلَمَّا كُنْتُ عِنْدَ الْبَابِ أَتَيْتُ بِكَفَّةٍ فَوَضَعْتُ فِيْهَا، وَوُضِعَتْ أُمَّتِيْ فِيْ كِفَّةٍ، فَرَجَحْتُ بِهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِأَبِيْ بَكْرٍ فَوُضِعَ فِيْ كِفَّةٍ، وَجِيْءَ بِجَمِيْعِ أُمَّتِيْ فِيْ كِفَّةٍ فَوُضِعُوا، فَرَجَحَ أَبُوْ بَكْرٍ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ورُوِيَ عَنْ أَبُوْ الْدَّرْدَاءِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنَّ رَسُوْلَ الْلَّهِ رَآَهُ يَمْشِيَ أَمَامَ أَبِيْ بَكْرِ، فَقَالَ : ((يَا أَبَا الْدَّرْدَاءِ، أَتَمْشِي أَمَامَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ فِيْ الْدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ؟! مَا طَلَعَتْ الْشَّمْسِ وَلَا غَرَبَتْ عَلَىَ أَحَدٍ بَعْدَ الْنَّبِيِّيْنَ وَالْمُرْسَلِيْنَ خَيْرٌ مِنْ أَبِيْ بَكْرٍ)).
وَقَدْ ثَبَتَ فِيْ الْصَّحِيْحَيْنِ مِنْ حَدِيْثِ أَبِيْ هُرَيْرَةَ رَضِيَ الْلَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْنَّبِيَّ قَالَ: ((مِنَ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِيْ سَبِيِلِ الْلَّهِ ـ أَيُّ: صِنْفَيْنِ مِنَ الْخَيْرِ ـ نُوْدِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عِبَادَ الْلَّهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنَنٍ بَابِ الْصَّدَقَةِ))، قَالَ أَبُوْ بَكْرٍ: يَا رَسُوْلَ الْلَّهِ، هَلْ يُدْعَيْ أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ رَسُوْلُ الْلَّهِ : ((نَعَمْ، وَأَرْجُوْ أَنْ تَكُوْنَ أَنْتَ مِنْهُمْ)).
وَفِيْ صَحِيْحِ مُسْلِمٍ قَالَ : ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ صَائِما؟)) قَالَ أَبُوْ بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: ((فَمَنْ تَبِعَ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟)) قَالَ أَبُوْ بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: ((فَمَنْ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِيْنا؟)) قَالَ أَبُوْ بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: ((فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيْضا؟)) قَالَ: أَبُوْ بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ رَسُوْلُ الْلَّهِ : ((مَا اجْتَمَعْنَ فِيْ امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ)). وَقَدْ قَالَ فِيْهِ عُمَرُ رَضِيَ الْلَّهُ عَنْهُ: مَا سَابَقْتُ أَبَا بَكْرٍ إِلَىَ خَيْرٍ إِلَّا سَبَقَنِيْ إِلَيْهِ.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: " أنت صاحبي على الحوض ، وصاحبي في الغار " رواه الترمذي وحسنه .
وَحَانَ وَقْتِ الْرَّحِيْلِ:
قَالَتِ عَائِشَةَ رَضِيَ الْلَّهُ عَنْهَا: أَوَّلَ مَابُدِئَ مَرَضٌ أَبِيْ بَكْرٍ أَنَّهُ اغْتَسَلَ، وَكَانَ يَوْمَا بَارِدْا فَحُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَةِ يَوْمَا لَايَخْرُجُ إِلَىَ صَلَاةِ، وَكَانَ يَأْمُرُ عُمَرَ بِالصَّلَاةِ، وَكَانُوْا يَعُوْدُوْنَهُ، وَكَانَ عُثْمَانُ أَلْزَمَهُمْ لَهُ فِيْ مَرَضِهِ ، وَلَمَّا اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ قِيَلَ لَهُ: أَلَا تَدْعُوَ لَكَ الْطَّبِيْبَ؟ فَقَالَ: قَدْ رَآَنِي فَقَالَ إِنِّيَ فَعَّالٌ لِّمَا أُرِيْدُ ، وَقَالَتِ عَائِشَةَ رَضِيَ الْلَّهُ عَنْهَا: لَمَّا مَرِضَ أَبُوْ بَكْرٍ مَرَضَهُ الَّذِيْ مَاتَ فِيْهِ، دَخَلَتِ عَلَيْهِ وَهُوَ يُعَالِجُ مَايُعالِجَ الْمَيِّتِ وَنَفْسِهِ فِيْ صَدْرِهِ فَتَمَثَّلْتَ هَذَا الْبَيْتِ:
لَعَمْرُكَ مَايُغْنِيَ الْثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَىْ إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْما وَضَاقَ بِهَا الْصَّدْرُ
فَنَظَرَ إِلَيَّ كَالْغَضْبَانِ، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِيْنَ، وَلَكِنَّ قَوْلَ الْلَّهِ أَصْدَقَ {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيْدُ}(سُوْرَةُ قِ، آَيَةً:19). ثُمَّ قَالَ: يَاعَائِشَةُ: إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِيْ أُحِبُّ إِلَيَّ مِنْكَ، وَقَدْ كُنْتُ نَحَلْتُكِ حَائِطَا([26])، وَإِنَّ فِيْ نَفْسِيْ مِنْهُ شَيْئا فَرُدِّيهِ الَىَّ الْمِيْرَاثِ. قَالَتْ: نَعَمْ فَرَدَدْتَهُ. وَقَالَ : أَمَّا إِنَّا مُنْذُ وَلِيُّنَا أَمْرٍ الْمُسْلِمِيْنَ لَمْ نَأْكُلْ لَهُمْ دِيْنَارَا وَلَا دِرْهَمَا، وَلَكِنَّا قَدِ أَكَلْنَا مِنْ جَرِيْشَ طَعَامَهُمْ فِيْ بُطُوْنِنَا، وَلَبِسْنَا مِنْ خَشِنِ ثِيَابَهُمْ عَلَىَ ظُهُوْرِنَا، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ فَيْءٌ الْمُسْلِمِيْنَ قَلِيْلٌ وَلَا كَثِيْرٌ إِلَا هَذَا الْعَبْدُ الْحَبَشِيَّ، وَهَذَا الْبَعِيْرِ الْنَّاضِحِ، وَجُرِّدَ هَذِهِ الْقَطِيفَةِ، فَإِذَا مُتُّ فَابْعَثِيْ بِهِنَّ الَىَّ عُمَرَ، وَابَرُئيّ مِنْهُنَّ فَفَعَلَتْ، فَلَمَّا جَاءَ الْرَّسُوْلُ الَىَّ عُمَرَ بَكَىَ حَتَّىَ جَعَلْتَ دُمْوعَهُ تَسِيْلُ فِيْ الْأَرْضِ، وَيَقُوْلُ: رَحِمَ الْلَّهُ أَبَابَكْرٍ، لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ، رَحِمَ الْلَّهُ أَبَابَكْرٍ، لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ، رَحِمَ الْلَّهُ أَبَابَكْرٍ، لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ ..,
وَيَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ وَرِعٌ الْصَّدِّيْقِ فِيْ الْمَالِ الْعَامِّ، فَقَدْ تَرَكَ هَذَا الْخَلِيفَةُ الْعَظِيْمُ تِجَارَتِهِ وَتَخَلَّى عَنْ ذَرَائِعِ كَسْبِهِ اشْتِغَالِا عَنْهَا بِأُمُوْرٍ الْمُسْلِمِيْنَ وَقِيَامَا بِوَظَائِفِ الْخِلَافَةِ فَيُضْطَرُّ الَىَّ أَخَذَ نَفَقَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِمَا لَايَزِيْدُ عَنْ الْحَاجَةِ الَىَّ سَدَّ الْجُوْعِ وَسَتَرَ الْعَوْرَةِ، ثُمَّ هُوَ يُؤَدِّيَ لِلْمُسْلِمِيْنَ خِدْمَةِ هَيْهَاتَ أَنْ تُؤَدِّيَ حَقَّهَا الْخَزَائِنِ وَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَىَ وَفَاتِهِ، وَعِنْدَهُ فَضْلَةٌ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِيْنَ وَهِيَ ذَلِكَ الْمَتَاعِ الْحَقِيرُ، يَأْمُرُ بَرْدَهَا الَىَّ الْمُسْلِمِيْنَ لِيَلْقَى رَبَّهُ آَمِنَا مُطْمَئِنَّا، نَزِيْهٌ الْقَلْبِ، طَاهِرٌ الْنَّفْسَ، خَفِيّفَ الْحَمْلِ إِلَا مَنْ الْتَّقْوَىْ، فَارِغٌ الْيَدَيْنِ إِلَا مَنْ الْايْمَانِ، إِنَّ فِيْ هَذَا لَبَلَاغا وَانَّهَا لَمَوْعِظَةُ لَّقَوْمٍ يَعْقِلُوْنَ ..,
وَقَدْ اسْتَمَرَّ مَرَضٌ أَبِيْ بَكْرٍ مُدَّةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْما حَتَّىَ كَانَ يَوْمُ الْإِثْنَيْنِ لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ فِيْ الْثَّانِيْ وَالْعِشْرِيْنَ مِنْ جُمَادَيَ الْآَخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ عَشْرَةَ لِلْهِجْرَةِ، قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ الْلَّهُ عَنْهَا-: إِنِ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لَهَا: فِيْ أَيِّ يَوْمٍ مَاتَ رَسُوْلُ الْلَّهِ ؟ قَالَتْ فِيْ يَوْمٍ الْإِثْنَيْنِ، قَالَ: إِنِّيَ لَأَرْجُوُ فِيْمَا بَيْنِيْ وَبَيْنَ الْلَّيْلِ، قَالَ: فَفِيْمَ كَفَّنْتُمُوهُ؟
قَالَتْ: فِيْ ثَلَاثَةٍ أَثْوَابٍ بِيْضٍ سَحُوْلِيَّةٍ يَمَانِيَةٌ لَيْسَ فِيْهَا قَمِيْصٌ، ولاعِمَامَةً فَقَالَ أَبُوْ بَكْرٍ: انْظُرِيْ ثَوْبَيْ هَذَا فِيْهِ رَدْعُ زَعْفَرَانٍ أَوْ مَشَقُّ فَاغْسِلِيهِ وَاجْعَلِيْ مَعَهُ ثَوْبَيْنِ آَخَرَيْنِ ، فَقِيْلَ لَهُ قَدْ رُزِقَ الْلَّهِ وَأَحْسَنَ نُكَفِّنُكَ فِيْ جَدِيْدٍ، قَالَ: إِنَّ الْحَيَّ هُوَ أَحْوَجُ إِلَىَ الْجَدِيْدِ لِيَصُونَ بِهِ نَفْسُهُ عَنْ الْمَيِّتِ، إِنَّمَا يَصِيْرُ الْمَيِّتَ إِلَىَ الْصَّدِيدِ، وَإِلَىَ الْبِلَى ، وَقَدْ أَوْصَى أَنْ تُغَسِّلَهُ زَوْجَهُ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، وَأَنْ يُدْفَنُ بِجَانِبِ رَسُوْلِ الْلَّهِ ، وَكَانَ آَخِرَ مَاتَكَلَّمَ بِهِ الْصَّدِّيْقُ فِيْ هَذِهِ الْدُّنْيَا قَوْلُ الْلَّهِ تَعَالَىْ:{ تَوَفَّنِيْ مُسْلِما وَأَلْحِقْنِيْ بِالْصَّالِحِيْنَ}(سُوْرَةُ يُوَسُفَ، آَيَةً:101).
وَارْتَجَّتْ الْمَدِيْنَةِ لِوَفَاةِ أَبِيْ بَكْرٍ الْصِّدِّيقِ، وَلَمْ تَرَ الْمَدِيْنَةِ مُنْذُ وَفَاةِ الْرَّسُوْلِ يَوْمَا، أَكْثَرَ بَاكِيْا، وَبَاكِيَةً مِنْ ذَلِكَ الْمَسَاءِ الْحَزِيِنْ وَأَقْبَلَ عَلَيَّ بْنِ أَبِيْ طَالِبٍ مُسْرِعَا، بَاكِيَا، مُسْتَرْجِعَا وَوَقَفَ عَلَىَ الْبَيْتِ الّذِيَ فِيْهِ أَبُوْ بَكْرٍ فَقَالَ: رَحِمَكَ الَلَهَ يَا أَبَا بَكْرٍ.. كُنْتُ إِلْفٍ رَسُوْلُ الْلَّهِ وْأَنِيسِهِ وَمُسْتَرَاحُه وَثِقَتِهِ وَمَوْضِعِ سِرِّهِ وَمُشَاوَرَتِهِ، وَكُنْتُ أَوَّلَ الْقَوْمِ إِسْلَامَا، وَأُخَلِّصُهُمْ يَقِيْنْا، وَأَشَدُّهُمْ لِلَّهِ يَقِيْنْا، وَأَخْوَفُهُمْ لِلَّهِ، وَأَعْظَمُهُمْ غَنَاءً فِيْ دِيَنِ الْلَّهِ عَزَّوَجَلَّ، وَأَحْوَطِهِمْ عَلَىَ رَسُوْلِ الْلَّهِ ، وَأَحْدَبُهم عَلَىَ الْإِسْلَامِ، وَأَحْسَنُهُمْ صُحْبَةِ، وَأَكْثَرُهُمْ مَنَاقِبِ، وَأَفْضَلَهُمْ سَوَابِقَ، وَأَرْفَعَهُمْ دَرَجَةً وَأَقْرَبَهُمْ وَسَيْلَةٌ، وَأَشْبَهَهُمْ بِرَسُوْلٍ الْلَّهُ هَدْيَا وَسَمْتَا، وَأَشْرَفَهُمْ مَنْزِلَةً، وَأَرْفَعَهُمْ عِنْدَهُ، وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْهِ، فَجَزَاكَ الْلَّهْ عَنْ رَسُوْلِ الْلَّهِ وَعَنْ الْإِسْلَامِ أَفْضَلَ الْجَزَاءِ. صَدَقْتَ رَسُوْلَ الْلَّهِ حِيْنَ كَذَّبَهُ الْنَّاسُ، وَكُنْتُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، سَمَّاكَ الْلَّهُ فِيْ تَنْزِيْلِهِ، صِدِّيْقَا فَقَالَ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالْصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُوْنَ}(سُوْرَةُ الزُّمَرِ، آَيَةً:33). وَاسَيْتُهُ حِيْنَ بَخِلُوا، وَقُمْتُ مَعَهُ عَلَىَ الْمَكَارِهِ حِيْنَ قَعَدُوا، وَصُحْبَتِهِ فِيْ الْشِّدَّةِ أَكْرَمَ الصُّحْبَةِ، ثَانِيَ اثْنَيْنِ صَاحِبِهِ فِيْ الْغَارِ، وَالْمُنَّزَلٌ عَلَيْهِ الْسَّكِينَةُ، وَرَفِيْقُهُ فِيْ الْهِجْرَةِ، وَخَلِيْفَتُهُ فِيْ دِيَنِ الْلَّهِ وَأُمَّتُهُ، أَحْسَنُ الْخِلَافَةِ حِيْنَ ارْتَدُّوْا، فَقُمْتُ بِالْأَمْرِ مَالَمْ يَقُمْ بِهِ خَلِيْفَةً نَبِيٍّ، وَنَهَضْتُ حِيْنَ وَهْنٍ أَصْحَابِهِ وَبُرِّزَتِ حِيْنَ اسْتَكَانُوْا، وَقَوِيَتْ حِيْنَ ضَعُفُوْا، وَلَزِمْتُ مِنْهَاجِ رَسُوْلِ الْلَّهِ إِذْ وَهَنُوْا، وَكُنْتُ كَمَا قَالَ رَسُوْلُ الْلَّهِ ضَعِيْفَا فِيْ بَدَنِكَ قَوِيّا فِيْ أَمْرِ الْلَّهِ تَعَالَىْ، مُتَوَاضِعَا فِيْ نَفْسِكَ عَظِيْمَا عِنْدَ الْلَّهِ تَعَالَىْ، جَلِيْلَا فِيْ أَعْيُنِ الْنَّاسِ كَبِيْرَا فِيْ أَنْفُسِهِمْ، لَمْ يَكُنْ لَأَحَدِهِمْ فِيْكَ مَغْمَزٌ، وَلالْقَائِلَ فِيْكَ مَهْمِزٌ، وَّلُالْمَخْلُوّقَ عِنْدَكَ هَوَادَةٌ، الْضَّعِيِفُ الْذَّلِيْلُ عِنْدَكَ قَوِيٌّ عَزِيْزٌ حَتَّىَ تَأْخُذَ بِحَقِّهِ الْقَرِيْبِ وَالْبَعِيْدِ عَنْكَ فِيْ ذَاكَ سَوَاءُ، وَأَقْرَبَ الْنَّاسِ عِنْدَكَ أَطْوَعُهُمْ لِلّهِ عَزَّوَجَلَّ، وَأَتْقَاهُمْ ... شَأْنُكَ الْحَقُّ وَالْصِّدْقُ وَالْرِّفْقُ قَوْلُكَ حُكْمٌ وَحَتْمٌ، وَأَمْرُكَ حِلْمٌ وَحَزْمٌ، وَرَأْيُكَ عِلْمٌ وَعَزْمٌ، اعْتَدَلَ بِكَ الْدِّيْنُ وَقَوِيَ بِكَ الْإِيْمَانُ وَظَهَرَ أَمْرُ الْلَّهِ، فَسَبَقَتِ -وَالْلَّهُ- سَبَقَا بَعِيْدَا، وَاتْعَبْتُ مِنْ بَعْدِكَ إِتْعَابّا شَدِيْدا، وَفُزْتَ بِالْخَيْرِ فَوْزَا مُّبِيْنا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ رَضِيْنَا عَنِ الْلَّهِ عَزَّوَجَلَّ قَضَاءَهُ وَسَلَّمْنَا لَهُ أَمْرَهُ، وَالْلَّهُ لَنْ يُصَابَ الْمُسْلِمُوْنَ بَعْدَ رَسُوْلِ الْلَّهِ بِمِثْلِكَ أَبَدا، كُنْتُ لِلْدِّيِنِ عِزّا، وَحِرْزا وَكَهْفَا فَأَلْحَقَكَ الْلَّهُ عَزَّوَجَلَّ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ ، وَلَاحَرَّمْنَا أَجْرَكَ، وّلاأَضَّلْنا بَعْدَكَ، فَسَكَتَ الْنَّاسُ حَتَّىَ قَضَىَ كَلَامَهُ، ثُمَّ بَكَوْا حَتَّىَ عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ وَقَالُوْا: صَدَقْتَ .., هَذَا وَقَدْ َغَسَّلَتْهُ زَوْجَهُ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، وَكَانَ قَدْ أَوْصَى بِذَلِكَ ، وَدُفِنَ جَانِبِ رَسُوْلُ الْلَّهِ، وَقَدْ جَعَلَ رَّأْسِهِ عِنْدَ كَتِفِيّ رَسُوْلُ الْلَّهِ ، وَصَلَّىَ عَلَيْهِ خَلِيْفَتِهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَنَزَلَ قَبْرِهِ عُمَرٌ وَعُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَابْنُهُ عَبْدِالْرَّحْمَنِ، وَأَلْصَقَ الْلَّحْدِ بِقَبْرِ رَسُوْلِ الْلَّهِ .
وَهَكَذَا خَرَجَ أَبُوْ بَكْرٍ الْصِّدِّيقُ مِنْ هَذِهِ الْدُّنْيَا بَعْدَ جِهَادِ عَظِيْمٌ فِيْ سَبِيِلِ نَشْرِ دِيْنِ الْلَّهِ فِيْ الْآَفَاقِ، وَسَتَظَلُ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ مَدِيْنَةِ لِهَذَا الْشَّيْخِ الْجَلِيلِ الَّذِيْ حَمَلَ لَوَاءِ دَعْوَةُ الْرَّسُوْلِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَحُمَّى غَرَسَهُ عَلَيْهِ الْصَّلاةُ وَالْسَّلامُ، وَقَامَ بِرِعَايَةِ بُذُوْرَ الْعَدْلِ وَالْحُرِّيَّةِ، وَسَقَاهَا أَزْكَىَ دِمَاءْ الْشُّهَدَاءِ، فَأَتَتْ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ عَطَاءٍ جَزِيْلا، حُقِّقَ عَبْرَ الْتَّارِيْخِ تَقَدَّمَا عَظِيْمَا فِيْ الْعُلُومِ وَالْثَّقَافَةِ وَالْفِكْرُ، وَسَتَظَلُ الْحَضَارَةِ مَدِيْنَةِ لِلْصِّدِّيْقِ لِأَنَّهُ بِجِهَادِهِ الْرَّائِعْ، وَبِصَبْرِهِ الْعَظِيْمُ حُمَّىْ الْلَّهُ بِهِ دِيَنَ الْإِسْلَامِ فِيْ ثَبَاتُهُ فِيْ الرِّدَّةِ وَنَشَرَ الْلَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ فِيْ الْأُمَمِ وَالْدُّوَلِ وَالْشُّعُوْبِ بِحَرَكَةٍ الْفُتُوحَاتِ الّعَظِيّمَّةَ الَّتِيْ لَمْ يَشْهَدِ لَهَا الْتَّارِيْخِ مِثَيِل .................