المصريون
د.إبراهيم أبو محمد | 16-06-2010 00:20
عاش الغرب منعطفا تاريخيا كانت الصيغ الثقافية السائدة محكومة بقيود السكون الرافض لأي حراك والجمود المتأبي على أي تغيير، والثبات المعادي لكل جديد عقلي أو علمي، وزاد هذا الإشكال تعقيدًا سيطرة الكنيسة برجالها ومفاهيمها على مصادر القرار والتوجيه في تلك الفترة، غير أن هذه المرحلة انتهت بتمرد العقل على تعاليم الكنيسة، وثورته بعد صراع طويل على تلك الصيغ الجامدة، وبموجب قانون رد الفعل، انطلقت المدارس الوضعية فى دراستها للظواهر الطبيعية أو الاجتماعية من منطلق أن كل شيء نسبي، "وبالفعل فقد تميز التاريخ الثقافي الأوروبي بالثبات والجمود على صيغ سكونية متحجرة، فكان من الطبيعي أن يولد هذا الضغط المتزايد فكرًا مناقضًا تمامًا يعادي فكرة الثبات فى حد ذاتها" ، وأنه لا مطلقات أبدًا في هذا الوجود وأن هنالك دورات كونية ذاتية يدور فيها كل شيء حول نفسه، فحقيقته هي ذاته، وذاته هي حقيقته، دون أن يكون هنالك عامل خارجي، وانحصرت الرؤية في جانب صغير من عالم المادة "العالم المحسوس أو ما يسمى بعالم الملك أو عالم الشهادة" دون أن تضع في الاعتبار عالم الغيب أو حتى تفكر فيه، وانطلقت هذه المدارس في إنكارها للثوابت في كل شيء، العقائد والقيم والأخلاق، ونشأت العلمانية الطبيعية كما يطلق عليها أستاذنا العظيم الدكتور عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- "العلمانية الشاملة"، والتي يمكن أن نسميها أيضا "العلمانية الطبيعية / المادية" أو "العلمانية العدمية"، وهي رؤية شاملة للكون بكل مستوياته ومجالاته، لا تفصل الدين عن الدولة وعن بعض جوانب الحياة العامة وحسب، وإنما تفصل كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن كل جوانب الحياة العامة في بادئ الأمر، ثم عن كل جوانب الحياة الخاصة في نهايته، إلى أن يتم نـزع القداسة تماما عن العالم (الإنسان والطبيعة) وهي شاملة.. تشمل كلا من الحياة العامة والخاصة، والإجراءات المرجعية" .
ومن ثم نستطيع أن نفهم السياق الزمني الذي نشأت في ظله المدارس الوضعية في دراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية والإنسانية وما احتواه هذا السياق من دوافع وبواعث وردود أفعال تجاوزت كل الثوابت والمطلقات ونظرت إلى كل شيء من منظور نسبي هروبًا من جبروت الكنيسة وتمردًا على السكون والجمود الذي صادر حق العقل في التساؤل والاستفهام، كما صادر حرية الفكر في الانطلاق حتى نحو الجوانب المادية.
يقول الأستاذ سيد قطب: "إن الفكر الأوروبي فى هروبه من الكنيسة ورغبته الخفية والظاهرة فى خلع نيرها قد مال إلى نفي فكرة الثبات على الإطلاق، واستعاض عنها بفكرة التطور على الإطلاق، ولم يستثن منها أصل العقيدة والشريعة، بل لقد كانت فكرة ثبات مقومات العقيدة والشريعة بالذات هي التي تريد التفلت منها... إن فكرة التطور المطلق الذي لا يتقيد بأي أصل ثابت ولا بأية قيمة ثابتة، ولا بأية حقيقة ثابتة، ليس حقيقة علمية، وإنما هي شهوة جامحة وهوى شارد مبعثه الرغبة فى التملص من وثاق الكنيسة الجبار".
وهكذا اهتز كل شيء ولم يعد هنالك ثوابت يتقيد بها الإنسان، فكل شيء نسبي وكانت حالة الاهتزاز هذه هي رد الفعل الطبيعي لما كان يسود قبلها من سكون وجمود وتحجر، صاحبها حالة رفض مطلقة لكل فكرة عقلية أو محاولة لتغيير الواقع الأمر الذي صدر عنه رد فعل رافض لكل الثوابت وخصوصا بعد مرحلة ذهاب سلطان الكنيسة وسيطرة الكهنوت على سبل الحياة.
* رئيس مجلس إدارة المؤسسة الأسترالية للثقافة الإسلامية - أستراليا