زعماء الأمس وزعماء اليوم مقال للدكتور محمد عماره المصريون
د. محمد عمارة | 11-01-2011 00:31
للمقارنة بين "زعماء اليوم" وزعماء الأمس، يكفي أن نقرأ صفحة من سيرة الزعيم الشعبي سعد زغلول باشا (1233 ـ 1336/ 1857 ـ 1927م) الذي قاد ثورة مصر سنة 1919م ـ فهي من أعظم الثورات شعبية في العصر الحديث..
وقاد الحركة الوطنية الرائدة في الشرق من أجل الاستقلال الوطني، وأصبح أكثر الزعماء المحبوبين لدى الجماهير..
فقلد كان سعد زغلول، حتى بعد أن أصبح زعيمًا للأمة أنشطته السياسية وشئون الحكم وصراعات الأحزاب، دائم التواصل مع الحركة الفكرية في المرحلة التي أعقبت إسقاط الخلافة الإسلامية سنة 1924م، والتي شهدت المعارك الفكرية الكبرى بسبب الكتب التي مثلت ـ يومئذ ـ عدوانًا سافرًا على ثوابت الإسلام.. وخاصة كتاب الشيخ علي عبد الرازق (1305 ـ 1385هـ / 1888 ـ 1966م) ( الإسلام وأصول الحكم) والدكتور طه حسين (1306 ـ 1393 هـ ـ 1889 ـ 1973م) (في الشعر الجاهلي).. ظل سعد زغلول ـ وهو زعيم الأمة ـ يواصل التواصل مع الحركة الفكرية، ويتخذ المواقف التي تعلن عن انتمائه إلى هوية الأمة، وتكوينه الإسلامي في مدرسة الإحياء الديني، وتتلمذه على يد الشيخ محمد عبده (1226-1323 هـ/1849ـ 1905م) ودراسته في الأزهر الشريف.
وعن هذه الصفحة من صفحات هذا الزعيم العظيم، كتب سكرتيره الخاص الشيخ محمد إبراهيم الجزيري ـ خريج مدرسة القضاء الشرعي، ورئيس تحرير مجلة القضاء الشرعي ـ في كتابه (سعد زغلول: ذكريات تاريخية) ـ يقول:
"وكان رحمه الله يرقب باهتمام ما ينشر من الكتب الحديثة بمصر، فيكلفني شراءها، ويقرأ منها ما تسمح به الفرصة، وقرأت له كتاب (الإسلام وأصول الحكم) للأستاذ علي عبد الرازق، وأولى إلي برأي فيه سجلته عندي.. وكذلك قرأت له كتاب المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي (في إعجاز القرآن) وكتاب الدكتور طه حسين (في الشعر الجاهلي)، ورد المرحوم الأستاذ محمد فريد وجدي عليه، ومحاضرات المرحوم الشيخ محمد الخضر بك في نقده.
وأذكر أنه ـ رحمه الله ـ أُعجب كل الإعجاب بكتاب محمد فريد وجدي هذا، (في الشعر الجاهلي)، وأهدى إلى الرئيس (سعد) نسخة منه، فلما قرأها كتب إلى الأستاذ وجدي هذا الكتاب البليغ التالي:
"حضرة الأستاذ الفاضل محمد فريد وجدي
وصلنا كتابك الذي وضعته في نقد كتاب (في الشعر الجاهلي)، وتفضلت بإرساله إليّ، وقرأنه في عزلة تجمع الفكر، وسكون يحرك الذكر، فراقني منه قول شارع للحق، ومنطق يقارع بالحجة في أدب رائع، وتحقيق دقيق في أسلوب شائق، وإخلاص كامل للدين في علم واسع، وانتصاف للحقيقة في احترام فائق، ومجموع من هذه الخصال استميلت منه قلبًا فياضًا بالإيمان، وعقلاً مثقفًا بالعرفان، ونفسًا محلاة بالأدب، فقررت عينًا بوجود مثلك بيننا، ورجوت الله أن يكثر من أمثالك فينا، وأن يجازيكم على ما تصنعون بتوفيق الباحثين والمتناظرين لاحتذاء مثالكم في دقة البحث، وأدب المناظرة، وإنكار الذات، والانتصار للحق، وبتوفيق الناس لاستماع أقوالكم وإتباع أحسنها، والسلام على المهتدين"..
سعد زغلول
16 أكتوبر سنة 1926م
هكذا كان سعد زغلول باشا: زعيمًا في السياسة.. والإدارة والحكم.. ومشاركًا في الفكر ومعاركه.. ومنتميًا إلى هوية الأمة وثوابت دينها وحضارتها.. ومدافعًا عن قيم الحضارة الإسلامية في "دقة البحث، وأدب المناظرة، وإنكار الذات، والانتصار للحق".. كما كان صاحب قلم بليغ، وفصاحة تستحق التأمل والدرس والأخذ على أنها صفحة من صفحات حياة هذا الزعيم العظيم، تقول لنا: إن في حياة زعماء الأمس جوانب تستحق أن تكون مادة للدرس في مدارسنا وجامعاتنا، لعلها تلفت أنظار أجيال المستقبل إلى المؤهلات الحقيقية للزعامة الحقة، فتخرج من هذا المنحدر الخطر والمهوي السحيق الذي سقطنا فيه!..