ضوابط الانفتاح على الحضارات الأخرى د. إبراهيم أبو محمد | 03-06-2010 01:03
من المعروف واقعًا وبداهة أن المجتمعات المعاصرة لا تعيش أزمة واحدة، وإنما تعيش عصر الأزمات بالجمع، ولم تستطع تكنولوجيا القرن الواحد والعشرين أن تفك أسر الإنسان من ضغط تلك الأزمات، ربما استطاعت تلك التكنولوجيا أن توفر في عنصر الزمن، وأن تقدم للإنسان بعض الآلات الدقيقة في كشف الجديد من أسرار المادة وخصائصها، ومن ثم قفزت العلوم التطبيقية في ذلك المجال قفزات واسعة، واتسع عالم الأشياء ونمت مدارك الإنسان فيه، بيد أن عالم الأفكار ظل في تخبطه يراوح مكانه ويعاني مشكلات إضافية حملها إليه نمط جديد في استهلاك الأشياء والقيم، ومن ثم ظهرت فلسفات تحمل عنوان الحداثة، بعضها يحاول تفكيك المجتمع وإعادة تركيبه وترتيبه، وبعضها يحمل من العبثية ما يدعو لتفكيك المجتمع فقط دون تركيب أو ترتيب، ثم جاء عصر "ما بعد الحداثة" إخطارا للجميع -فلاسفة ومفكرين ومصلحين- بأن نظاما قائما في طريقه إلى السقوط وليس له من بديل، ونمى الشعور العام بمجموعة الأزمات التي تعانيها البشرية على مستوى الفرد والمجتمع، وعلى مستوى الأمم والشعوب ومن ثم على مستوى الحضارة في مفهومها الواسع، وسقطت نظرية صراع الحضارات لـ"صموئيل هنتنتجتون" التي روجت لها دوائر المكر السيئ في مراكز القرار لدى عواصم الغرب، ثم سقطت بجانبها نظرية فلسفة نهاية التاريخ "للكاتب الأمريكى فرانسيس فوكوياما". بل تراجع المؤلف نفسه وعدل عن فكرة نهاية التاريخ، ليكتب كتابه الانهيار أو التصدع العظيم -وهو كتاب يبحث في الفطرة الإنسانية وإعادة تشكيل النظام الاجتماعي.
وفي موقع المتلقي كانت مجتمعاتنا المسلمة تتخبط بين كونية جديدة فرضتها العولمة بنمطها المادي الذي أرادت تسويقه بنوعين من القوة، هما:
القوة الخشنة في بعض المناطق عن طريق (نظرية الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد) والمشهد في العراق وفي فلسطين وفي أفغانستان نموذجا.
أو القوة الناعمة المتوشحة بوشاح النمو والتطور والحرص على دخول بعض المجتمعات إلى حضارة العصر من باب الديمقراطية وما ترتديه من قفازات الأطماع وبسط النفوذ والسيطرة على منابع الثروة، بوضع اليد الثقيلة التي تعجز الشعوب الضعيفة عن تحريكها أو مقاومتها، والوسائل إلى ذلك كثيرة، منها إثارة النـزعات العرقية والدينية وإثارة نزاع الحدود، وتخويف الشعوب من عدو موهوم -وحالة إيران مع دول المنطقة نموذجا- أو حماية حقوق الأقليات، ودارفور في السودان نموذجا آخر.
وبين هاتين القوتين وتحت ضغوطها كان قدر الأمة أن تقاوم وأن تعمل على الاحتفاظ بالخصائص والمكونات والدفاع عن الموروث باعتباره المخزون الذي يحمل في مكنونه الهوية (عقيدة وفكرًا)، ومن ثم كان الصراع الطويل في مواجهة موجات المد الآتي من هناك خلف السيل، وهو مد عاتٍ في قوته وسرعة انتشاره، حيث تحمله وسائل العصر عبر قنوات الاتصال الحديثة، فاخترقت به الحواجز والحدود، وأصابت به الهويات في الصميم، وجعلتها عرضة للشك فيما لديها والقلق في كيفية مواجهة حاضرها المضطرب والمهتز أمام هذا السيل المنهمر الذي يحمل الكثير من الغثاء الضار أكثر مما يحمل من الجديد النافع.
ولقد كان من الطبيعي أن يستفز هذا الوضع القلق إرادة عموم الأمة عامة، وبخاصة العلماء، والنخب الثقافية والأكاديميات العلمية؛ لإعادة النظر في أنساق القيم التي توجه سلوكها وتكون ثقافتها وتحدد علاقتها بما تحمله تيارات العولمة، كما تحدد مكانها واتجاهاتها في تلك الكونية الجديدة كما سبق.
ولم يكن من المقبول ولا من المعقول أن ننكفئ على الذات مكتفين بالماضي التليد ذاكرين بأنه قد كان لنا مكان الصدارة في يوم ما، وكنا نحن العالم الأول.
ومن ثم كان من الضروري قبل الدخول إلى العصر من عملية مراجعة مع الذات نعرف من خلالها من نحن؟ وماذا نريد تحديدًا؟ وما الذي يمكن أن نأخذه وما الذي يمكن أن نرفضه؟ وهل لنا أصلا خيار في القبول أو الرفض؟ وهل لدينا منظومة من القيم تمكننا من التعامل مع المتغيرات مع الاحتفاظ بالخصوصية؟
الإجابة على تلك الأسئلة تحدد أولا إمكانات الذات حين تتعامل مع الآخر والاستجابة للتحدي لابد أن تنطلق من رؤيتنا نحن، وبعيوننا نحن، ووفق ثوابتنا نحن، ثم لابد أن تكون تلك الاستجابة محسوبة بما نملك، لا بما نتمنى أن نملك..
كما لابد أن تكون تلك الاستجابة مؤطرة بسقف معرفي يحمل فى رؤيته بجانب ثوابتنا، البعد الإنساني لما تحمله قيم الآخرين، ويأخذ في الحسبان ونحن بصدد الحديث عن منظومة القيم الاعتبارات التالية:
أن الفطرة قاسم مشترك بين البشر (مجتمعات وشعوب وأمم) مهما اختلفت الأجناس والألوان واللغات.
أن الآخر الذى نتعامل معه لم يعد متشخصا ومحددا كما كان من قبل، وإنما أصبح كامنا فينا مستكنا في ثقافتنا بعد أن زالت عجمته بفعل من ينوبون عنه ويتحدثون بلسانه من أبناء جلدتنا، الأمر الذى جعل طرق المعالجة أكثر تعقيدا لأنها لا تتعامل مع محدد ومعروف ومن ثم فعليها أن تتوقى الحذر حين تشق طريقها بين من يتربصون بها ويتمنون لها كل العثار .
أن الحضارات وإن كانت أنساقا مغلقة في نظر البعض وهى لا تأخذ من بعضها إلى عند الضرورة ، وأن العقائد والقيم أكثر المناطق بعدا عن التأثير والتميع وأكثرها تحصنا وتمنعا، إلا أن المشاهد أن التفاعلات في الأفكار والثقافات تنتقل دون استئذان وتتجاوز موانع الزمان والمكان التى زالت بالفعل مع دخول عصر السماوات المفتوحة والفضائيات التى تفوق العد والحصر. فإذا أضيف إلى ذلك ما أنتجته وسائل العصر من منظومة اتصالات ألكترونية، ربطت بين شتى البقاع وحولت العالم الشاسع عن طريق تكنولوجيا الفضاء إلى قرية كونية مسموعة ومرئية فإن من الضرورى أن نسارع بالحضور للاستفادة أولا مما تحقق هناك في عالم الأشياء وهو كثير وعظيم ومبهر .
وثانيا لطرح ما لدينا في عالم الأفكار والقيم، وهو أيضا عظيم ورائع ومبهر ويشكل بالنسبة للآخرين قارب النجاة ويحمل في منظومته كل وسائل الإغاثة والإنقاذ، علي أن ننطلق في تناول الوضوع من موقع الفعل وليس الانفعال أو رد الفعل.
من موقع الفعل الإرادى الخبير بما لدينا في عالم الحقائق والقيم والمدرك لقيمته إنسانيا وحضاريا، والبصير بما تحتاج إليه مجتمعاتنا في عالم الأشياء.
ولذلك فالمنطلق يجب أن يكون من موقع الشريك والند لا من موقع التبعية الذى ظل يحكم البعض في رؤيتهم ورؤاهم للمشكلة، ومن ثم كانت طريقة المعالجة تكرارًا لنفس المنهج الذي أدى إلى وجود الأزمة وهيأ مناخلها وبيئتها، وقد زاد الإشكالية تعقيدًا أن هذا المنهج المعلب والمعبأ في بيئة مختلفة عن بيئتنا وقيمنا لا يحمل في مكنونه ثوابت الأمة ولا يحسب حسابها في الحلال والحرام وما يجوز وما لايجوز، ومن ثم فهو منهج بمعيار الحقائق قد خفت موازينه ونضبت روافده، والمنادون به تناسوا ثوابت الأمة، وغفلوا عن طموحاتها في ولوج عالم اليوم، وهي مزودة بمنظومة قيم تنفتح على الآخرين، دون أن تفقد خصائصها، تأخذ منهم وتعطيهم بعد الفرز والغربلة بمعيار ومقياس، ومن ثم فالانفتاح على الآخرين لا يعنى أن تهتز ثوابتنا. فنحن أمة تملك من المعايير ما يمكنها من النظر فيما لدى الآخرين، وما يجوز بحال من الأحوال ونحن أهل الوحي المعصوم أن نسمح للآخرين باحتكار ميزان التقدير ومقاييس التقدم.
فلننظر فيما عندهم وبمعاييرنا نحن، فإن كان حقًّا وخيرًا قبلناه وشكرناهم عليه، وإن كان شرًّا وباطلا رفضناه ونبهناهم إليه وعذرناهم على ذلك، وفي عصور ازدهارالحضارة الإسلامية سعى المسلمون للانفتاح على الحضارات الأخرى والثقافات الأخرى والتحاور مع تلك الثقافات والحضارات. ولقد نبه عملاق الفلسفة المعروف، الفيلسوف المسلم ابن رشد في -فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال-، على ضرورة دراسة كتب الآخرين والتعرف على ثقافاتهم وحضارتهم وأن ذلك يعد من الواجبات الإسلامية فيقول: "فما كان منها موافقًا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم..". وما يقوله ابن رشد هنا ينطلق أصلا من قاعدة إسلامية قررها القرآن حين قال: (فَبَشِّرْ عِبَادِ.الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر: 17، 18]. ومن ثم فإن فهم الدين والاعتزاز بذاتياتنا مطلب حيوي لإحداث اليقظة وتحقيق النهضة، ولمنظومة قيمنا هنا دور كبير وعظيم في إثبات الخصوصية وحماية الهوية واستبقاء الأصول والثوابت بعيدًا عن كل مناطق الاهتزاز التي تحدثها النهضة عادة ويسببها الإقلاع الحضاري.
• رئيس مجلس إدارة المؤسسة الأسترالية للثقافة الإسلامية - أستراليا