الموقف في الفتن الحمد لله رب العالمين ............
إخوة الإيمان : هل تظن بأن الله الذي سخر للإنسان هذا الكون بأفلاكه وكائناته ، وأرضه وسمائه ، وأحيائه وجماده ؛ قد ترك هذا الإنسان بلا محاسبة ولا مراقبة ، هل يستوي من عمل لله وصدق مع الله مع من قل عمله وساء فعله وبطل قصده وضل سعيه ؟ كلا .... .
اعلموا عباد الله : أنكم في دار ابتلاء وامتحان تبتلون بالسراء والضراء وبالشدة والرخاء وبالصحة والمرض والغنى والفقر والشهوات والشبهات وبالأخيار والأشرار ، وبالمنافقين والكفار ، فما موقفكم من هذه الأحوال؟ .
إن عليك أيها المسلم أن تشكر الله تعالى على ما حباك من نعمة القرآن العظيم ، وعلى ما هداك من إدراك سنة خير المرسلين... لأن الله تعالى قد أنار لك بذلك الطريق وبين المسلك الحق الذي فيه النجاة السلامة والخلوص من أكدار الحياة ومصائب الدنيا ، ولكن ذلك يحتاج منا إلى الصدق في التدبر لكلام الله تعالى ، والصدق في النظر في القرآن بعين أهل العلم والإيمان واليقين ، فعندها تحصل النجاة ويتحقق الفوز والمغنم .
كم من نعمة نتنعم بها ؟ وكم من فضل من الله نعيشه ، ولكننا ننسى عظمة المنعم ونغفل عن شكر المتفضل سبحانه وتعالى .
عباد الله : من ذلك كان لا بد من وقفة مع أمر جد هام ، نستلهم منه ما وجَّه الله إليه عباده فيه ، وما شرع الله في دينه نحوه ، إنه الموقف الذي ينبغي للمسلم أن يقفه في أوقات المصائب والبلايا والفتن .
فكلنا مبتلاً في هذه الحياة ، ممتحن في كل ما نملك وفي كل ما يعترينا في هذه الحياة حتى نلقى الله، إنها دار فتنة وابتلاء وعناء ، والمرء مبتلىً فيها بالشر والخير كما قال تعالى: {كُل نَفسٍ ذَائِقَةُ المَوتِ وَنَبلُوكُم بِالشر وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينَا تُرجَعُونَ}.
إنها الفتن ، تلك المصائب التي تحل بالأمة في أفرادها أو في جماعاتها ، الفتن التي تحل بالمسلم في نفسه أو في إخوانه المسلمين ، الفتن التي يفجع المرء بسماع أخبارها بل وقد يترك استماع أخبارها لما يعيشه من هول الصدمة وقوة الفاجعة وعظم البلاء والفتنة ، بل ينبهر من ظلم الظالم وسطوة المتجبر ، وقهر الضعيف ، فلا يرى له من حالٍ إلا أن يحوقا ويسترجع ويتحسر ويدعوا من لا تغلق أبوابه سبحانه وتعالى ، لذلك ولغيره كان لا بد من معرفة موقف المسلم في مثل هذا .
يجب على كل مسلم أن يدرك أن الله تعالى قد بين سنة من سنن الوجود ؛ وهي سنة الابتلاء ، وأنه لا بد للمسلم من أن يمحص ويبتلى ، فالفتن تكشف حال الناس ، وتبين الصادق من الكاذب ، كما قال جل وعلا : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ )
ويقول جل وعلا : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) . ويقول سبحانه : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) . ويقول جل من قائل سبحانه : ( بسم الله الرحمن الرحيم = الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ، مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )
إنها آيات محكمات ، ودلائل واضحات لمن تدبر القرآن وعقل معانيه . ورحم الله الفضيل بن عياض حين قال: " الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم؛ فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه ".
ومن الأمور التي ينبغي استحضارها في أوقات الفتن والمحن : ما تضمنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما ؛ ووصية النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم له ، وهي وصية لجميع الأمة من بعده ؛ عَنْ ابن عباس رضي الله عنهما أنه قَالَ: كنت خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يوما فقَالَ: <يا غلام إني أعلمك كلمات ينفعك الله بهن: احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعَنْ باللَّه، قد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا ، رفعت الأقلام وجفت الصحف) رَوَاهُ أحمد والْتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح.
احفظ الله يحفظك أي احفظ حقوق الله واعمل بشريعته وأقم حدوده واجتنب حرماته تكن تحت حمايته ورعايته وعنايته وهدايته وتوفيقه في أمور دينك ودنياك .
و" احفظ الله تجده أمامك ": معناه أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في كل أحواله حيث توجَّه يحوطه وينصره ويحفظه ويسدده ويوفقه ويعزه ويعلي شأنه ويرفع أمره ، وإن تكالب عليه أهل الباطل وأهل الكفر والضلال . فإن من كان الله معه حصلت له القوة التي لا تغلب ، والركن الشديد الذي لا يهدم ، وقد كتب أحد الصالحين إلى أخ له : أما بعد فإن كان الله معك فممن تخاف ؟ وإن كان الله عليك فمن ترجو؟ فمن ترجو؟ !!!.
أو ما قال ربنا سبحانه وتعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ؛ نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ )
ومما ينبغي للمسلم أن يدركه في الفتنة : أن نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الناصح الأمين ؛ قد نبه على عظم الفتن في آخر الزمان وأن لها شدة وقوة تجعل الحليم حيرانا ، وقد وردت بذلك أخبار كثيرة نقف مع بعض منها ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنا كَقِطَعِ اللّيْلِ الْمُظْلِمِ. يُصْبِحُ الرّجُلُ فِيْهَا مُؤْمِنا وَيُمْسِي كَافِرا. أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنا وَيُصْبِحُ كَافِرا. يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدّنْيَا".مسلم.
وروى الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يتقارب الزمان، وينقص العلم، ويلقى الشُّحُّ، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج). قالوا: يا رسول الله، أيُّما هو؟ قال: (القتل القتل).
ومن الواجب أيضاً للنجاة من مضلات الفتن التي لا مناص للمؤمن منها التحصن والتوقي منها ، وذلك بالاعتصام بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والعمل وفق شرع الله تعالى لا وفق هوى النفس وشهواتها ولا وفق أهواء البشر وضلالاتهم ؛ فإن الله تعالى يقول في كتابه العظيم مبيناً المخرج من البلاء والفتنة ومذكراً بعظمته سبحانه وقدرته ، وأنه قادر على أهل الكفر والضلال لا يخرجون من قدرته وقوته : (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ ، فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ) فالنجاة في الاستمساك بما شرع الله تعالى .
ومن المواقف ؛ إدراك أنَّ الفتن والبلاء فيها درسٌ من دروس التوحيد والإيمان والتوكل، يطلعك على حقيقة نفسك لتعلم أنك عبد ضعيف لا حول لك ولا قوة إلا بربك، فتتوكل عليه حق التوكل، وتلجأ إليه حق اللجوء، حينها يسقط الجاه والتيه والخيلاء، والعجب والغرور والغفلة، وتفهم أنك مسكين يلوذ بمولاه، وضعيف يلجأ إلى القوي العزيز سبحانه.
إخوة الإيمان : لنتذكر توجيه الله لعباده المؤمنين حيث يقول سبحانه وتعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {24} وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ، وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .
بارك الله لي ولكم .....
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده ...
عباد الله : التقوى ..
أخي المسلم ؛ لا تكن الفتن والبلايا عائقاً لك عن الطاعة ، ولا محبطة للعزيمة ولا مخذلة عن العمل الصالح ، بل اجعل صلتك بالله قوية وعلاقتك بدينك متينة مهما شوه المغرضون وأرجف الضالون وخذل المبطلون ، ومهما نعق أهل الباطل بباطلهم ، وشوَّه أهل الكفر دين الله تعالى ، ومهما تكالب الكفار على المسلمين ؛ فلندرك حقاً أن دين الله تعالى هو المنتصر في النهاية ، لأن العاقبة للمتقين ، فالله سبحانه وعد ووعده حق وصدق فقال جل وعلا : (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) .
ولنتذكر أن الدين لله ، ولن يستطيع أولئك كلهم أن يطفئوا نور الرحمن ودين الإسلام ، فإنك أخي حين تتذكر قول الله تعالى ووعده الحق : ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {32} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {33} ) . ويقول جل وعلا : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) . حين تتدبر هذه الآيات وغيرها تطمئن نفسك ويرتاح بالك وتقوى علاقتك بالله ويزداد اعتزازك بإسلامك ، وتكن صادقاً في دعائك ومناجاتك لربك سبحانه .
يا صاحب الهمِّ إنَّ الهم منفرجٌ
أبشِر بخيرٍ فإنَّ الفارج الله
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه
لا تيأسنَّ فإنَّ الكافي الله
الله يُحدِث بعد العسر ميسرة
لا تجزعنَّ فإن القاسم الله
إذا بُليت فثِقْ باللـه وارضَ به
إنَّ الذي يكشف البلوى هو الله
واللهِ ما لكَ غير الله مـن أحدٍ
فحسبُك الله في كلٍ لك الله
عباد الله : ادعوا الله وأنتم موقنون بإجابته لعباده .
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين .
اللهم أعز اللهم انصر دينك
اللهم بلغنا رمضان وأمتنا أمة عزيزة غالبة ، وما ذلك على الله بعزيز ...