أمة لا تعرف تاريخها لا تحسن صياغة مستقبلها الاعتصام بالكتاب والسنة وسنة الخلفاء الراشدين :
لما ولي عمر بن عبد العزيز كتب : أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله ولزوم كتابه والإقتداء بسنة نبيه وهديه وليس لأحد في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أمر ولا رأي إلا إنفاذه والمجاهدة عليه ... فإن الذي في نفسي في أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تتبعوا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن تجتنبوا ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيد ، من عمل بغيرهما فلا كرامة ولا رفقة له في الدنيا والآخرة وليعلم من عسى أن يذكر له ذلك، ولأن تموت نفسي في أول نفس أحب إلى من أن أحملهم على غير اتباع كتاب ربهم وسنة نبيهم التي عاش عليها من عاش توفاه الله عليها من توفاه الله عليها – إلا أن يأتي علي وأنا حريص على اتباعه- وإن أهون الناس علي تلفا وحزنا لمن عسى أن يريد خلاف شيء من تلك السنة . وقال : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً ، الأخذ بها الاعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله ، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر خالفها ، ومن اهتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاَه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا . وقال : يا ليتني عملت فيكم بكتاب الله وعملت به ، فكلما عملت فيكم بسنة وقع مني عضو، حتى يكون آخر شيء منها خروج نفسي وكتب إلى الخوارج في عهده: ... فإنني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فهذه الآثار توضح إتباع عمر للكتاب والسنة ولزومهما، وبذل الجهد والطاقة في تطبيقهما وإن أدى ذلك إلى قطع الأعضاء ، وإزهاق النفس. وما ذهب إليه عمر هو أصل الدين وأساسه قال تعالى : ( فلا ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ) ( النساء : 65) وقال صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس : إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنتي .
ولقد تمسك عمر بن عبد العزيز بكتاب الله وسنة رسوله وخلفائه الراشدين وأعاد للخلافة الراشدة معالمها وملامحها وسار على هديها وعض على سننهم بالنواجذ ورجع إلى أقوالهم عند النزاع وأخذ بها في الحكم على أهل القبلة وأهل العهد ، كما أخذ بها في العبادات والمعاملات وقد أولى الخليفة الأولى والثاني أبا بكر وعمر جل اهتمامه ، وعد ّ الأخذ بسنتهم أخذاً بسنة رسول الله كما أخذ بسنة الخليفة الثالث عثمان واعتصم بسنة الخليفة الرابع على وخصوصاً في معاملة الخوارج ، حيث ناظرهم وكتب إليهم فلما تمادوا حاربهم وحكم على أموالهم وذراريهم وأسراهم بقضاء الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، بل يرى عمر بن عبد العزيز أن من خرج عن سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين رضي الله عنهم فهو خارج عن سبيل المؤمنين وهو من الفرقة الهالكة وكل ما سنه الخلفاء الراشدون فإنه من سنته صلى الله عليه وسلم لأنهم سنوه بأمره، ولا يكون في الدين واجباً إلا ما أوجبه ولا حراماً إلا ما حرمه ولا مستحباً إلا ما استحبه ولا مكروهاً إلا ما كرهه ولا مباحاً إلا ما أباحه، واتباع سنة الخلفاء الراشدين في العقائد والأحكام هو ما عليه السلف الصالح وهو الذي دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) ( النساء آية : 115) وقال صلى الله عليه وسلم : فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة .
2- منهج عمر بن عبد العزيز الأموي في إدارة الدولة من خلال خطبته الأولى :
صعد عمر المنبر وقال في أول لقاء مع الأمة بعد استخلافه أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين واني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي ، فاختاروا لأنفسكم ، فصاح الناس صيحة واحدة قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك فولّ أمرنا باليمن والبركة . وهنا شعر أنه لا مفر من تحمل مسؤولية الخلافة فأضاف قائلاً يحدد منهجه وطريقته في سياسة الأمة المسلمة : أما بعد فإنه ليس بعد نبيكم نبي ، ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب ، ألا إن ما أحل الله حلال إلى يوم القيامة ، ألا إني لست بقاض ولكني منفذ ، ألا واني لست بمبتدع ولكن متبع ألا إنه ليس لأحد أن يطاع في معصية الله ، ألا إني لست بخيركم ولكني رجل منكم غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً : أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس ، وإلا فلا يقربنا : يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها ويعيننا على الخير بجهده ويدلنا على الخير على ما نهتدي إليه ، ولا يغتابن عندنا الرعية ولا يعترض فيما لا يعنيه . أوصيكم بتقوى الله عز وجل فإن تقوى الله خير من كل شيء وليس من تقوى الله خلف ، وأعملوا لآخرتكم ، فإنه من عمل لأخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه ، وأصلحوا سرائركم ليصلح الله الكريم علانيتكم وأكثروا من ذكر الموت وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم ، فإنه هادم اللذات وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل ولا في نبيها صلى الله عليه وسلم ولا في كتابها وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم واني والله لا أعطى أحدا باطلاً ، ولا أمنع أحداً حقاً ، ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال : يا أيها الناس ، من أطاع الله وجبت طاعته ، ومن عصى الله فلا طاعة له أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم ، وإن من حولكم من الأمصار والمدن فإن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا وليكم وإن هم نقموا فلست لكم بوال ثم نزل ، وهكذا عقدت الخلافة لعمر بن عبد العزيز في ذلك اليوم ، ويظهر لنا من هذه الخطبة السياسية التي قرر عمر بن عبد العزيز اتباعها في الحكم فوائد وهي :
أ- التزام بالكتاب والسنة ، وأنه غير مستعد للاستماع إلى أي جدل في مسائل الشرع والدين على أساس أنه حاكم منفذ وأن الشرع بين من حيث تحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم الله ورفضه للبدعة والآراء المحدثة.
ب- حدد لمن يريد أن يتصل به وبعمل معه من رعيته أن يكون اتصاله معه لخمسة أسباب :
- أن يرفع إليه حاجة من لا يستطيع أن يصل إلى الخليفة ، أي إنه جعل المقربين منه همزة وصل بينه وبين من لا يستطيعون الوصول إليه ، فيعرف بذلك حوائج الناس وينظر فيها .
- أن يعينه على الخير ما استطاع ، أي أن علاقة هؤلاء به تقوم على أساس نزعة الخير يعين الخليفة عليه ، وبالتالي يحذره من أي شر .
- فرض على من تقرب إليه فريضة أن يرشده ، ويهديه إلى ما فيه خير الأمة.
- نهى من يريد أن يتقرب إليه ، عن أن يغتاب عنده أحد .
- أن لا يتدخل أي مقترب منه في شؤون الحكم ، وفيما لا يعنيه عامة.. لقد كان يدرك مدى تأثير البطانة والمقربين من الحاكم على الحاكم وعلى الرعية وعلى أسلوب الحكم ، فآثر أن ينبه الناس حتى يتركوه يحكم بما ارتضى من نطاق شرع الله ، دون أن يبعدهم نهائياً لأنه أجاز لهؤلاء المقربين أن يدلوه على الخير ويعينوه عليه وأن ينقلوا إليه حاجة المحتاج .
- كما أنه حذر الناس من عواقب الدنيا ولو أساءوا فيها وطلب إليهم أن يصلحوا سرائرهم ويحذروا الموت ويتعظوا به .
- قطع على نفسه عهداً بأن لا يعطي أحد باطلاً ولا يمنع أحداً حقاً ، وأنه أعطاهم حقاً عليه ، وهو أن يطيعوه بما أطاع الله ، وأنه لا طاعة له عليهم إذا عصاه سبحانه وتعالى.
هذه هي الخطوط العريضة لسياسة عمر ، ذكرها في أول لقاء له مع الرعية وأهل الحل والعقد في المسجد بعد بيعته. فدولته قد حددها بالسير على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد آثر أن لا يدع لأي عامل من عماله حجة عليه بعد ذلك، ففصل ما أجمل في خطبته الأولى في كتب أرسلها إلى عماله وقد كانت هذه الكتب نوعين :
- كتاب إلى العمال يبصرهم بما يجب عليهم أن يلتزموا به في مسلكهم الشخصي والخاص – إزاء الرعية .
- وكتب إلى عماله حددت سياستهم وطريقة تعاملهم مع أفراد الرعية من المسلمين وغير المسلمين ، ممن كانوا يسكنون دار السلام .