التوحيـــد
إن عقل الإنسان يقف في مسألة الألوهية موقفا حازما ، فليس هناك اختلاف في كون الإله واحد ، وإنما تتفاوت العقول في شرح وحدانية الإله . فمنذ قديم الزمان والإنسان يؤكد علي توحيد الألوهية ، إلا أن فكرة التعدد واردة علي ذهنه وعقله ، مما يشاهده من تعدد الكائنات وتعدد أحوال الخير والشر في الكون فمنذ القديم والإنسان يؤمن بوحدانية المصدر والقدرة 0
ففكرة التوحيد قائمة عند الإنسان البدائى القديم ، والتي يرمز إليها غالبا " بالإله الأعظم – سيد الالهة – كبير الآلهة – الإله الواحد " 0
وفكرة تعدد صدور الخير والشر جعل الانسان القديم ينقسم ، فمنهم من جعل الإله اثنان صنف يصدر عنه الخير وآخر يصدر عنه الشر مسنداً إليه الفعل ، ( إله الخير – إله الشر ) ومنهم من جعل القسمة ثلاثية ، مثل الفكر البوذى والمصري القديم ، ومنهم من جعله أكثر من ثلاثة بحسب احوال العالم ( إله الحب – إله الحرب – إله الخصب – الخ ) وهذه التقسيمات في نظر بعض الباحثين أثرا للتطور البشري في تفكيره ، فالإنسان ينتقل من مرحلة إلي أخري فيقسمون فكر الإنسان الي مراحل ثلاثه " (1) :
المرحلة الاولي : وهى مرحلة دور التعدد . polytheism
المرحلة الثانية : وهى مرحلة التميز والترجيح henotheism
المرحلة الثالثة : وهى مرحلة الوحدانية monotheism
وهذه المراحل الثلاث هى المحددة لتفكير الانسان في الاله ، وانها وصلت الي مرحلة الكمال ، مرحلة الوحدانية ، ويشير الأستاذ العقاد بأن هناك من يقول بمرحلة رابعة زاعما بأنها مرحلة الثنائية dualism وهم يعللون ذلك ، بأن الانسان يترقى في هذا الطور فيحاول تفسير الشر في الوجود ونسبته الي اله غير اله الخير ، وليس في هذا الطور عودة وانتكاسة(2) فمن العسير أن نبني، من هذه الأطوار قاعدة للفكر الإنسانى لأن المشاهد في التاريخ الديني للقبائل القديمة ما يهدم هذه الأطوار ، علي اختلاف الزمان والمكان ، ولوجود طورين معاً أو أكثر ، فمن المشاهد أن هناك قبائل مازالت حتى اليوم من آكلي لحوم البشر ، يؤمنون بإله واحد ، وهناك قبائل يؤمنون بالتعدد الثلاثى مثل قبائل البانتو الأفريقية ، كما يوجد عند القدماء المصرين الوحدانية بالرغم من التعدد الظاهرى الجلي لذلك الإله
وهذه " الفكرة قديمة ، فموضوع تعدد الالهة يكاد يكون عاما في جميع الثقافات القديمة ، قال به المصريون القدماء ، وقال به الأشوريون والبابليون والفرس .والهنود والصينيون واليونان علي اختلاف في عدد الآلهة ومكانتها واختلاف في تصور صلة الالهة بعضهم ببعض أو صلتهم بالبشر(3) .
ونجد في الفكر الإنساني نماذج من الإله المتعدد مع الاعترافات بوحدانيته ، فمن القائلين بالتعدد ( البراهمة ) مع قولهم بالإله الواحد في ثلاثة ويطلقون عليه ( الثلاثة في واحد يسيطرون على الكون :
(1) براهما : الخالق 0
(2) فشنو : الحافظ 0
(3) شيفا : المدمر 0
لكن التوحيد هو نهاية تلك الأطوار ، كافة في جميع الحضارات الكبرى فكل حضارة قد آمنت باله يعلو علي الإلهة قدرة وينفرد بالجلال بين أرباب تتضائل وتختفى حتى تزول ، أو تحتفظ ببقائها في زمرة الملائكة التي تحف بعرش الإله العظيم 0
ولعل البابليين هم أول من قال بالثالوث وذلك في الألف الرابع قبل الميلاد ، فقد كان البابليون يدينون بتعدد الآلهة ، ولكنهم نظموا هؤلاء الآلهة أثلاثا ، أي جعلوها مجموعات متميزة المكانة والقدر(4) .
فبراهما سيد الجميع بالرغم أنه مهمل في شعائرهم العبادية الفعلية ، أما فشنو فهو إله الحب الذي أكثر ما ينقلب إنساناً ليتقدم بالعون الي البشر وهو المتجسد في شخصية ( كرشنا ) الذي يشفى الصم والعمى ويعاون المرضى والمصابين ، وتقول عنه الاسطورة أنه صلب علي شجرة وأنه يعود في اليوم الآخر ليحاسب الناس جميعا(5) ، أما شيفا فهو اله القسوة والتدمير ، وهو لا يظهر إلا في ميادين القتال والمعارك الطاحنة ، وله العديد من التماثيل المنحوتة في الجبال المرصعة بالجماجم فوق رأسه وتحيط به أرواح الشر .
وهناك نموذج آخر للتوحيد الأسري ، وقد تطور ذلك التوحيد ليشمل الإناث والأبناء ، فنجد في المجتمعات الزراعية التي اتخذت فكرة الأسرة الإلهية أو الثالوث الإلهى رمزا لها ، ففى أريحا مثلاً نجد مجموعات من التماثيل قد ظهرت تتكون من رجل وامرأة وطفل ، وأن مثل هذا الثالوث نشأ منعكسا من ظهور العائلة والاستقرار والتي تجسدت في صورة الآلهة ، وفي الأردن في منطقة عين غزال نجد مخبأين مهيأين للدفن وجد فيهما تماثيل ثلاثية تدل علي ذكر وأنثى وابن(6) 0
فالتوحيد ثابت في الفكر الإنساني(7) ) يجب أن نلاحظ بأن الفكر الدينى المسيحى يختلف فيه الثالوث عن هذه الاتجاهات العقلية ففى موعظة البابا شنودة ، اصدار المكتبة الصوتية بتاريخ – 11/11/1997م ، ذكر فيها الفروق الواضحة بين التوحيد والتثليث في محاضرته ذاكراً فيها بأن الفروق عديدة بين التثليث الإنسانى في المذاهب ويبن المسيحية ونجمل هذه الفروق في نقاط منها : في قصة الثالوث المصري ايزيس وأزيرويس وحورس
التثليث المسيحى : التثليث الوثنى :
(1) بينما تقوم المسيحية علي التوحيد فليس فيها انفصال فالآب والابن والروح القدس واحد فليس فيهم انفصال
(2) ليس فيه إمرأة .
(3) ليس فيه تناسل جسدانى 0
(4) التثليث المسيحي ليس فيه مفارقة في الزمن والجنس والقدرة فالكل واحد لا فرق بينهم زمانى أو مكانى أو قدرة
(1) التثليث الوثنى انفصالي ينفصل فيه الثلاثية فهو قائم علي الانفصال وليس التوحيد 0
(2) التثليث الوثنى فيه إمرأة
(3) فيه تناسل جسداني
(4) التثليث الوثنى فيه اختلاف زمنى – مفارقه زمنية فأيزيس موجودة لوحدها وايزورس موجود لوحده ثم تم التزاوج وانتج حورس المتأخر في الزمان فهو اقل زمنا .
ـ ثم يوضح البابا بأن فكرة الثالوث ليست فكرة مسيحية ، وإنما هى فكرة قديمة عبر الدهور ولها العديد من الشواهد في العهد القديم
ـ استمع : موعظة البابا شنوده الثالث وبطريرك الكرازة المرقسية بعنوان " التوحيد والتثليث " ، بتاريخ 11/11/1997م ، بكلية اللاهوت ، إصدار المكتبة الصوتية 0، إلا أن صوره مختلفة باختلاف الثقافات و الاتجاهات ، وفى ظل غياب الوحى السماوي ، والإيمان الدينى القائم علي الرسل نجد هذا التخبط ، فالسماء لم تترك قوما بغير هداية ، ولم يخل مجتمع إلا ونزل فيهم نذير ، ولذا فإن فلسفة التوحيد ثابتة وأن الكفر به وارد من فعل الانسان وصدق الله عندما يقول " وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ "(
، ويقول : " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا "(9) 0
ثانياًَ: المبادئ الأخلاقية فى
(التوحـــيد)(1)
الإسلام (2) ، يتضمن الاستسلام لله وحده فمن استسلم له ولغيره كان مشركا ، ومن لم يستسلم له كان متكبرا عن عبادته ، والمشرك به والمتكبر عن عبادته كافر(3) 0
لأنك لو قلت لا اله إلا الله طالبك بها وبحقها ، وهو ألا تنسب الاشياء إلا إليه ، مثال القلب إذا سلمته إلي النفس ، فلا تكن ممن أسلم قلبه إلي نفسه ، فهل رأيت بعيرا قلد نفسه لأعمى يقوده ؟(4)
ففكرة التوحيد ، وفكرة الحقيقة الالهية والتصديق بوحدانيته تعالي وافراده بالعبادة أسمى فكرة فى الوجود وأقدمها.
فالوجود الإلهي هو الحقيقة الكبرى الخالدة ، التى خلق لأجلها الإنسان وأبدع الأكوان (5) ، يقول تعالى "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ "(6) ، وعقيدة الوحدانية هى أساس كل دين منذ بدأت الاديان إلي أن انتهت بالإسلام ... وهى الكلمة التى اجتمعت عليها كافة الرسل والانبياء وإن اختلفت الفاظها وتعددت لغاتها فهى تلتقى حول حقيقة واحدة هى الدعوة إلي وحدانية الله تعالى (7).
ويقول الكتاب المقدس : " لا يكن لك الهة أخرى امامى لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ما مما فى السماء من فوق وما فى الأرض من تحت وما فى الماء من تحت الأرض لا تسجدلهن ولا تعبدهن لانى أنا الرب إلهك "(
0
ويؤكد العهد الجديد هذه الحقيقة فيقول "بالحق قلت لأنه الله واحد وليس أخر سواه، ومحبته من كل القلب ومن كل الفهم ومن كل النفس ومن كل القدرة"( ).
فالوحدانية فى الإلهية لا تسمح بأى شرك فى المنهج الفكرى ، ولا تسمح بالتفريق بين الانبياء والرسل ، والنظر إلي كل منهم على أنه مفضل عن الآخرين فهم أبناء علات ـ ويقول السيد المسيح "لم أتى لأنقض الناموس" 0(*)
والكتب السماوية واحدة لا تفريق بينهما ، وقضايا الكتب السماوية مشتركه تم تجريدها مما أصابها ووضعها فى إطار الصدق من جديد على يدى كل رسول(9) 0
فتوحيد الله هو أخطر حقيقة فى الوجود ، سواء فى الدنيا أثناء الحياة الإنسانية أو فى الاخرة ، فإن انتفاء التوحيد يجعل أعمال الخير فى الدنيا لا قيمة لها ولا وزن(10)، فالقوانين الأخلاقية التى تسند إلي الإيمان بالله سبحانه لها أثرها البالغ فى تهذيب لما لها من سلطان قوى علي المؤمن نتيجة الإيمان بالله تعالى (11) 0
ونلاحظ أن المهم هو تهيئة الذهن للتوحيد ، وليس المهم هو ما قصده الإنسان فى نيته وعمله ، فالمهم فى الاطوار الدينية هو الحافز الدائم ، الذي لزم النوع الإنساني من أقدم العصور (12)
ونجد فرقا بين مبدأ التوحيد وقاعدة التوحيد ، فالمبدأ منصوص عليه فى النص المقدس ويعتبر اصل الشىء أما القاعدة فهى تتبع الفروع وتجريدها للبحث عن المشترك السارى بين الفروع (13) 0
فمبدأ التوحيد ثابت ، وروابطة فى الأديان السماوية الثلاثة واحد ، الهدف واحد يربطهم ويجمع بينهم ، وهذا الهدف هو الإيمان بإله واحد ، وإخلاص العبادة له دون سواه ، وما فيه من إختلاف ليس واقعا من هذا المبدأ ـ وإنما هو واقع ، ومقتصر على الفروع ، والمناهج دون الأصول والأساس(14)، يقول تعالى : " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ "(15) 0
ويقول الكتاب المقدس : " وما سمعنا صوت الرب الهنا لنسلك فى شرائعه التى جعلها امامنا عن يد عبيدة الانبياء "(16) والأخلاق تأتى إنعكاساً للعقيدة ، فكلما صحت العقيدة استقام السلوك الإنسان ، والأخلاق ثمرة من ثمرات الشريعة التى تعبر عن الجانب العملي والسلوك الخارجي للإنسان ، ومن هذا المبدأ، التوحيدى فى الشرائع يتكون للأنسان قاعدة اخلاقية، ومن هذا المبدأ الاخلاقى للتوحيد الذى يستمد منه الإنسان العديد من الأخلاق منها :
1ـ الطمأنينة:
ولا تكون إلا بالإيمان فيقول تعالى : " الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ "(17) 0
ويقول الكتاب المقدس : " ادعنى فى يوم الضيق انقذك فمجدنى " (18)0
حيث يستشعر الإنسان أنه داخل فى حكم الله وقضائه ، فى إطار المشيئة الإلهية العليا التى سمحت للإنسان الحرية فيكون مسئولاً أمام الله تعالى .
وهذه الطمأنينة توصله للعمل الصالح بجوارحه وترشده إلي طريق الهداية فيقول تعالى: " يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي (19) 0
2ـ السكينة :
لأن الإنسان يسير فى الهدى الإلهي ، ويطبق الشرع الموصل للجنة فيقول تعالى : " الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ "(20)
ويقول الكتاب المقدس :" لا تتعجبوا من هذا فإنه تاتى ساعة فيها يسمع جميع الذين فى القبور صوته فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلي قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلي قيامة الدينونة " (21)
حيث قرن الحق سبحانه بين الاطمئنان القلبي والسير على نهجه بأنه الموصل إلي حُسن الخاتمة الذي يرجوه كل إنسان فيقول تعالى : " ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " (22) 0
ويقول تعالى : " هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً "(23)0
ويقول الكتاب "هو ذا يولد لك ابن يكون صاحب راحة وأريحة من جميع أعدائه حواليه لأن اسمه يكون سليمان فأجعل سلاما وسكينة في إسرائيل في أيامه"( ).