المبادئ الأخلاقية فى
الصلاة
الصلاة هى نداء واستجابة ، ويقول الأنبا ياكوبوس : " الصلاة إذا كانت روحية صادقة فهي نداء واستجابة ، نداء إلهي واستجابة بشرية " (1) ، فإن إقامة الصلاة إقامة للدين ، وهى صلة بالله وتحقيق هذا هو المثل الأعلى والغاية العظمى والسعادة الكاملة التى يجري وراءها المؤمنون ليحققوا بها معارجهم نحو الله تعالي (2) 0
سئل أحد الصالحين عن صلاته فقال : الصلاة من الآخرة فإذا دخلت فيها خرجت من الدنيا(3)
فالصلاة كمبدأ أخلاقي لها تأثير فى النفس الإنسانية ، وأخلاق يتحلي بها فاعلها ، فالصلاة لم تعد مجرد إبتهال ودعاء وذكر وتلاوة إنما هى أقوال وأعمال يشترك فيها الفكر والقلب واللسان والبدن(4) ، إنها الواسطة التى عينها الله للحصول على النعم الضرورية (5)، لأنها إرتفاع العقل لله أو مخاطبة النفس لربها وهى لائقة بالله جل شأنه ولازمة لنا لأنها تظهر شعورنا بالإحتياج وثقتنا به تعالي(6) ، فالصلوات التى فرضها الله علينا وجعلها كتاباً موقوتاً وشدد على إقامتها فى الكثير من الآيات المقدسة هى من أعظم أساليب التربية الأخلاقية ، فهى عرض متكرر لضمير العبد أمام ربه تزيل كل أثر لخطاياه التى إقترفها فى نهاره 0
وهذا معنى قوله تعالي : " إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ "(7) 0
ويقول الكتاب المقدس : " واظبوا على الصلاة ساهرين فيها بالشكر ، (
صلوا بلا انقطاع ، اشكروا فى كل شىء " (9)
ولذا فإن الصلاة كمبدأ أخلاقي لها أثرها فى الخلق والتربية ومن هذا المبدأ استشعار الضعف أمام العظمة الإلهية ، لأن الإنسان فى دخوله للصلاة ، واستحضاره العظمة الإلهية للرحمن الرحيم مشيراً بيديه مع لسانه وقلبه حتى يكون متوجهاً إلي الله تعالي بجزئه وكله ، مصدقاً أن ربه أمامه يسمعه ويراه وإن كان محجوباً عنه بظاهره ومعناه(10) 0
ولذا يقول تعالي فى الحديث القدسي : " ليس كل مُصلي يصلي ، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي وكف شهواته عن محارمي ولم يصر على معصيتي ... " الحديث (11) ، ولذا فإن الصلاة مصدر أخلاقي ، ينقي الإنسان من خلالها من شوائب الخلق الذميم والفعل الأثيم والإصرار على المعصية والتقرب لله عز وجل للوصول إلي الرحمة والنعيم المقيم 0
ونجد فى الصلاة كمبدأ أخلاقي أموراً عظيمة يمكن أن نذكر منها :
(1) استشعار الضعف الإنساني أمام العظمة الإلهية ، بالامتثال إلي أوامره والوقوف بين يديه تعالي، ففى صورة الصلاة نجد المصلي وهو واقف بين يدي ربه خاشع مخبت عابد ، داعي ربه وقلبه راجف من خشية الله ، طامع وراجي فضل ربه الذى ذخر له من الجزاء ما لا يبلغ تصوره خيال0
فيقول الله عن تلك الهيئة " إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " (12) 0
فهذا المشهد يصف فيه المولي عز وجل مشهد المؤمنين وصورتهم الجسدية ومشاعرهم القلبية فى لمحة واحدة . فى التعبير العجيب الذى يكاد يجسم حركة الأجسام والقلوب(13) 0
ويقول الكتاب المقدس : " إنى قد شرعت اكلم المولى وأنا تراب ورماد ، (14) أما أنا فبكثرة رحمتك ادخل بيتك ، أسجد فى هيكل قدسيك بخوفك " 0(15)
وهذا الإيمان بالله الخالق صاحب العظمة يجب أن نستسلم لربوبيته وسلطانه ، فهو الجدير بالعبادة ، والتخلق بأخلاقه ، فالاستسلام له واجب فهو يقول : " وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ " (16) ، فهو الذى تحشر إليه الخلائق ، فأولي لهم أن يقدموا بين يديه ما ينجيهم من عذابه ، وأولي لهم إن يستسلموا اليوم له استسلام العالمين ، قبل أن يقفوا أمامه مسئولين(17)
ويقول الكتاب المقدس " فاسهروا إذا لأنكم لا تعرفون اليوم ولا ساعة التى يأتي فيها بن الإنسان"(18)
ولذا نجد حكمة افتتاح الصلاة باستشعار الضعف الإنساني أمام العظمة الإلهية بإعلان (الله أكبر) وهى ترك جميع المخلوقات، وتصغير الكائنات، وإخراج كل ما هو فى قلب المصلي(19)
(2) الطمأنينة :
فالصلاة طمأنينة للقلب الذى امتلأ إيماناً بالله رب العالمين ، والطمأنينة منبعها الشعور الإلهي بالحضرة الإلهية للرحمن الرحيم ، مشيراً إلي عظمة العظيم بيده مع لسانه وقلبه(20) 0
ولذا يدعو الإنسان المضطرب : " اللهم الضابط الكل القادر وحده على أن يضبط مشيئات الخاطئين وأهوائهم غير المرتبة ، أنعم على شعبك بأن يحبوا ما أمرت به ، ويرغبوا فيما وعدت به ، حتى إنه مع تقلبات هذا العالم المختلفة ، ويثبت قلوبنا بقيناً ، حيث الفرح الحقيقي بربنا "(21) 0
لأن الحب الإلهي المتمثل فى الصلاة شئ تميل إليه النفس البشرية ، وفى ذلك يقول تعالي : " فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً "(22) 0
وهذه الطمأنينة إنما تقوم بتعمير بيوت الله فى الأرض ( المساجد ـ الكنائس ـ المعابد ) ، فيقول تعالي : " إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ " (23) 0
وذلك بتوجيه القلب وعمل الجوارح امتثالاً لأمر الله فيكافئهم الله تعالي بذلك التوجيه وعلى ذلك العمل بالهداية والوصول للنجاح(24) 0
وفى الدعاء : " نتضرع إليك أيها الرب الرحيم أن تنعم على عبادك الأمناء بمغفرة وسلام ليطهروا من جميع خطاياهم ويعبدوك بفكر مطمئن " (25) 0
ويشير القرآن : " إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ "(26) 0
ويقول الكتاب المقدس : "لذلك أقول لكم كل ما تطلبونه حينما تصلون فأمنوا أن تنالوه فيكون لكم ".(27)
(3) السكينة :
والسكينة ربما تأتي بمعني الطمأنينة ، فطمأنينة القلب أساس الإيمان وعلامتها خضوع الجوارح ، فالطمأنينة قلبية والسكينة متعلقة بالجوارح أي بسكون الأعضاء البدنية 0
فالصلاة عبارة عن كلمات ينتهى بها إلي إدراك وتأثر ، ثم إلي عمل بعد ذلك إلى سلوك ، فليس المراد الكلمات وإنما المراد تأثير الكلمات فى البدن 0
وهذه السكينة هى طرح جميع ما في الكون والدخول فى الحضرة الإلهية ، ووضع الملك والملكوت وراء أدبارهم فارين إلي الله تعالي(28)
فالصلاة ثلاث : مصلَّي وهو العابد ، ومصلَّي له وهو المعبود ، وصلاة هى الأقوال والأعمال والأحوال 0
والصلاة فى أصولها قائمة بالله ولله ، فباسم الله أثبتت لله الملكية ، وأثبتت قيام المصلي بقدرة الله(29) ، ولذا يقول القرآن الكريم : " وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ "(24)
فالاستعانة بالصبر على احتياج البدن ، والصلاة دوام الشكر والحمد لله والدخول فى حضرته يؤديان إلي سكينة وخشوع ، وكما قال النبي ( ) عندما نظر إلي رجل ينقر الصلاة كنقر الديكة فقال : " لو خشع قلبه لخشعت جوارحه "(30) ، وروي فى الكتب السالفة عن رب العزة أنه قال : " ليس كل مصلي أتقبل صلاته وإنما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي ولم يتكبر على عبادي وأطعم الفقير الجائع لوجهى (31)، ويقول ( ) : " إنما فرضت الصلاة وأمرت بالحج والطواف وأشعرت المناسك لإقامة ذكر الله تعالي ، فإذا لم يكن فى قلبك للمذكور الذى هو المقصود والمبتغي عظمة ولا هيبة فما قيمة ذكرك " (32)0
والاستعانة بالصبر تتكرر كثيراً ، فهو الزاد الذى لابد منه لمواجهة كل مشقة والاستعانة بالصلاة لأنها صلة ولقاء بين العبد وربه ولأن تلك الصلة يستمد منها القلب قوة ، وتحس فيها الروح صلة وتجد فيها النفس زاداً أنفس من أعراض الحياة الدنيا (33) 0
ويشير الكتاب المقدس فى ذلك قائلاً : سلاماً أترك لكم ، سلامي أعطيكم ، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا، لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب" (34)
(4) استشعار الأخوة الأخلاقية :
من تراص ومحبة وتراحم وتعاون ، وقد شرع الله لنا بناء المساجد لتكون محلاً للاجتماع ومقراً للاستماع وموطناً للطاعة والإتباع ، وجعلها ميزة للمؤمنين وحجة على المكذبين (35) 0
وفى الدعاء : " اللهم الضابط الكل اقبل صلواتنا راحماً .امنحنا كل ما هو ضروري لخيرنا الروحي . قوَّ المؤمنين وثبتهم . أفتقد المرضي وأغثهم نبه المتهاونين وانهض الساقطين . بارك عمدتنا الرعوية وأرشد أعضاءها بروحك القدسي لكي يعملوا إرادتك الصالحة . أمنحهم قلوباً مخلصة وأمينة. وإملاءنا جميعاً غيرة لنعمل معاً الخير " (36) 0
فليس فى التصور نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى العبادة أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف ، فكل سلوك غايته تحقيق معنى العبادة أولاً وأخيراً (37) 0
فالصلاة تزكية للنفس وصلاحها ، فإذا أتم العبد صلاته وأكملها ، فاز بفلاح نفسه وتزكيتها فإذا انتهت سياحته الملكوتية ومكالمته الربانية أعاده الله للأكوان ، وأرجعه إلي دائرة الإنسان ، ليقوم بواجبه الخلافي (38) 0
ولذلك يعلم القرآن أتباعه أن يستشعروا هذه الأخوة ويدعون لإخوانهم الذين سبقوهم فى الإيمان وإخوانهم الذين وقعوا فى براثن المعصية والمخالفين حتى يعودوا إلي حظيرة الإيمان 0
يقول تعالي : " وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ "(39) 0
ويشير الكتاب المقدس : أحبوا أعدائكم وباركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسئيون إليكم ويطردونكم ، لكي تكونوا ابناء ابيكم الذى فى السموات فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين ، لأنه إن احببتم الذين يحبوننكم فأى أجر لكم؟ (40) (5) استشعار الرحمة الإلهية :
لما فى الصلاة من قرب للخالق ولشكر نعمه علينا ، واستمرار عطاءه مع كثرة ذنوبنا فيقول تعالى : " ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"(41) ويقول تعالى فى الحديث القدسى " عبدى لو أتيتنى بقراب الأرض خطايا ثم استغفرتنى غفرتها لك ـ ثم يقول تعالى ـ لو أن عبدى أستقبلنى بقراب الأرض ذنوباً لا يشرك بى شيئاً إستقبلته بقرابها مغفرة (42) وفى الكتاب المقدس : "متى وقفتم تصلون، فأغفرواإن كان لكم على أحد شئ لكى يغفر لكم أيضاً أبوكم الذى فى السماوات زلاتكم وإن لم تغفروا أنتم لا يغفر لكم أبوكم الذى فى السموات أيضاً زلاتكم"(43)
فالصلاة فيها تدبر وتفكر فى نواميس الكون لاستشعار الرحمة الإلهية ، لإن الصلاة ترتبط بالكون ، بالشمس والقمر والشفق والسحر 0
فيقول تعالي : " أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (44) 0
فدلوك الشمس زوالها عن كبد السماء ، والغسق أول الليل وقرآن الفجر صلاة الفجر ، وجعل التهجد وحده لأن الذى أختص به رسول الله ( ) ، وكذلك الصلاة عند أصحاب الكتاب ليس لها عدد محدد وإنما المراد بها التقرب إلي الله ، لكن من الصلوات المقررة صلاة الصباح والمساء وغيرها(45) 0
فالصلاة لها مبدأ أخلاقي حيث ترتبط بالكون ، كصلاة الاستسقاء التى يدعو فيها الناس لكل العطش ، الظمآي من المؤمنين وغيرهم ، وصلاة الكربة وهى صلاة دعاء زوال الغم والهم والحزن ، وصلاة الشكر التى فيها خلق المودة والرحمة التى يشكر فيها العباد ربهم بعد زوال النقم ويتضرعون إليه بعدم إنزال البلاء عليهم بسبب عصيان بقية البشر .
ويقول الكتاب المقدس :"فأطلب أول كل شئ أن تقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس" (46)