الداعية جامع وجامعة

المبادئ الأخلاقية فى
الصوم
كتب الله تعالى على عباده المؤمنين الصوم وجعله فريضة لأسرار عليا وحكم بالغة نعرف منها ما نعرف ونجهل ما نجهل ، ويكشف لنا الزمان بعضها ويستر بعضها ليوضحه لنا فى حينه (1) ، فعلينا ان نتأمل حكمه الله تعالى وراء الجوع والعطش وأن ندرك جوانب من سره تعالى فى الصوم حتى نؤديه كما امرنا ربنا ، فهو القائل "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (2)
ويقول الكتاب المقدس: "الذين نهايتهم الهلاك الذين الههم بطنهم ومجدهم فى خزيهم، الذين يفتكرون فى الأرضيات، فإن سيرتنا نحن هى فى السموات، التى منها أيضاً ننتظر مخلصاً (3)
فالصوم الحقيقى هو الذى يتدرب فيه الصائم على ضبط النفس كمنهج حياة (4)
فالصوم هو ترك الحلال من المأكل والمشرب والشهوه إبتغاء مرضات الله وان بدا سلبيا فى مظهره فهو عمل ايجابى فى حقيقة روحه ، إذ هو كف النفس عما تشتهيه بنيه القرب الي الله تعالى ، فهو بذلك عمل نفسي ارادي له ثقله فى الميزان ، والقبول عند الله تعالى ، فالنية هى الفيصل فى كل فعل وترك (5) ، فليس الصوم عن الطعام والشراب مقصوداً لذاته ، وإنما هو تدريب لا مفر منه ، للبلوغ تدريجيا الى السيطرة التامه للنفس على الجسد والروح على المادة بكل متعلقاتها ، من اهواء ، وميول ، ورغبات ، ونزعات ، وشهوات ، فالصوم بهذا المعنى ليس هو الجسد الجائع ، بل الجسد الزاهد (6) ، فالصوم يجعل الإنسان كالملائكة (7) ، وتلك سنه الله فى أنبيائه ورسله ، مثل موسى وإيليا، ارادا أن يقتربا من الله ويتحدثا إليه ، لجأ إلي الصوم ، وبمعونة الصوم صارا فى شركة مع الله ( ، ولعل الإنسان إذا عرف سر الله فيه ، عرف قيمة نفسه ولذا يقول الشاعر : ـ
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته ... أتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان (9)
ولهذا فُرض الصيام ليتحرر الإنسان من سلطان غرائزه ، ويتحكم فى نزواته ويتشبه بالملائكة، فليس عجيبا أن يرقى روح الصائم ويتقرب من الملأ الأعلى ، ويقرع أبواب السماء بدعائه فتفتح ، ويدعو ربه فيستجاب له ، ورحم الله شوقي بك حيث قال : " الصوم حرمان مشروع ، وتأديب بالجوع ،وخشوع لله ، وخضوع ، لكل فريضة حكمة ، وهذا الحكم ظاهر العذاب وباطنه الرحمة ، يستبشر الشفقة ويحض على الصدقة يكسر الكبر ويعلم الصبر ويسن خلال البر حتى إذا جاع من ألف الشبع وحرم المترف أسباب المتع عرف الحرمان كيف يقع والجوع إذ ألمه لذع "(10)
فالصوم مدرسة أخلاقية عظيمة والصوم كمبدأ أخلاقي يظهر فى سلوك الإنسان الأخلاقي فى عناصر عديدة منها :
1- التقرب للخالق بما فرضه ، والتشبه بالملائكة الذين لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون (11) ، لأن الصوم له منزلة عظيمة عند الله عز وجل فيقول محمد (  ) الصوم نصف الصبر (12) والصبر نصف الإيمان (13) ، ولذا يعد العلماء الصوم ربع الإيمان بالله ويقول تعالى " إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ " (14) 0
ويقول الكتاب المقدس : " قدسوا صوما نادوا باعتكاف اجمعوا الشيوخ جميع سكان الأرض إلي بيت الرب الهكم واصرخوا إلي الرب " (15) لتقديسه والتقرب إليه بما أمرنا به ، فنتقرب إليه بالصوم ويقول الكتاب: " وأما أنت فمتى صمت فأدهن رأسك وأغسل وجهك لكى لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذى فى الخفاء ، فأبوك الذى يرى فى الخفاء يجازيك علانية " (*)
2- الزهد فى الدنيا وملذاتها وشهواتها فيقول الله تعالى على لسان نبيه محمد (  ) " إن الله تعالى يباهى ملائكته بالشاب العابد فيقول أيها الشاب التارك شهوته لاجلى المبذل شبابه لى أنت عندى كبعض ملائكتى (16) ، الذين لا يعصون الله أبدا ويفعلون كل أوامره والصائم بذلك يصل إلي مرحلة تعبديه يقال عنها بصوم خصوص الخصوص وهو صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية وكفة عما سوى الله بالكلية (17) ، لأن الصوم أمانه فليحفظ احدكم امانته "(18) 0
ويقول تعالى " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً " (19) 0
ويقول الكتاب المقدس : " يقولون "لماذا صمنا ولم تنظر ذللنا أنفسنا ولم تلاحظ؟" ها انكم فى يوم صومكم توجدون مسرة وبكل اشغالكم تسخرون، ها انكم للخصومة والنزاع تصومون ولتضربوا بلكمة الشر، لستم تصمون كما اليوم لتسميع صوتكم فى العلاء، امثل هذا يكون صوم اختاره ؟ يوم يذلل الإنسان فيه نفسه يحنى كالأسئلة راسه ويفرش تحته مسحا ورمادا هل تسمى هذا صوما ويوما مقبولا للرب ؟ اليس هذا صوما اختاره ؟ حل قيود الشر، فك عقد النير ، واطلاق المسحوقين وأحرار وقطع كل نير أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلي بيتك ؟ إذا رايت عريانا أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك، حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك وتنبت صحتك سريعا ويسير برك امامك ومجد الرب يجمع ساقتك، حينئذ تدعو فيجيب الرب"(20) .
3- مراقبة النفس الأمارة بالسوء وكبح شهواتها لأن الصوم فيه تهذيب للنفس الأمارة بالسوء ولذا نجد أنبياء الله تعالى وما لهم من مكانة عند ربهم إلا أنهم يتقربون لله تعالى بالصوم يقول محمد (  ) " عرضت على مفاتيح خزائن الدنيا وكنوز الأرض فرددتها وقلت أجوع يوما واشبع يوما أحمدك إذا شبعت و أتضرع إليك إذا جعت (21) وتلك سنة الله فى انبيائه فقد قال محمد (  ) افضل الصوم صوم أخى داود كان يصوم يوما ويفطر يوما "(22)
لأن الصوم لجام المتقنين وجنة المحاربين ورياضة الابرار المقربين وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال ويبرهن القديس يوحنا فم الذهب على أن وصية الصوم كانت منذ البدء عندما خلق الله الإنسان لأن وصية(23) "من جميع شجر الجنة تأكل أكلا وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها"(24)
ولآن الصوم نجاة لقول محمد (  ) " الصوم جنة " (25) ، بمراقبة النفس ويذكر الكتاب المقدس عن صوم اهل نينوى وتوبتهم وكيف أن الصوم أنقذ مدينة نينوى بأكملها من وقوع الهلاك عليهم(26) لأن الله حذرهم بعد أربعين يوما تنقلب المدينة(27) ، فبالصوم مراقبة النفس الامارة وكبح الشهوات يتقرب الإنسان الحرية ويظهر عليه السلوك الأخلاقي النابع من الصوم الرباني .
ويقول الكتاب المقدس: يقولون لماذا صمنا ولم تنظر؟ ذللنا أنفسنا ولم تلاحظ؟ ذلك لأنكم في صومكم توجدون مصرة وتسخرون جميع أعمالكم .وها أنتم تصومون صومكم اليوم لا يجعل أصواتكم مسموعة في العلاء. أيكون الصوم الذى اختاره في إذلال المرء نفسه يوما أو في احناء رأسهم كالقصبة أو أفتراش المسح والرماد .هل تسمى هذا صوما دوما ومقبولا للرب ؟ (28)
4ـ من المبادىء الأخلاقية للصوم التسليم لله وكمال العبودية له لأن الصوم الصادق من العبادات التى تساعد الصائم على التغلب على كل الصعاب التى تعترض طريقه للتوصل إلي تعميق ودعم الجانب الروحى لديه فيقول تعالى " { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }" (29)، مشيرا إلي أن الهدف من الصوم هو التقوى والتقوى تمثل المستوى الروحى المطلوب الذي يلقى الإنسان المؤمن(30)، ويشير الكتاب المقدس: "قدسوا صوما نادوا باعتكاف أجمعوا الشيوخ جميع سكان الأرض إلي بيت الرب ألهكم واصرخوا إلي الرب" (31).
لأن المرء لا يعرف مقدار نعم الله تعالى إلا إذا حرم منها فترة فمن الصوم أن يعرف المرء بمقدار نعم الله عليه فاذا تكررت النعم قل شعوره بها وهى لا تعرف إلا بفقدانها(32) ، ففى الصوم ابراز نعمة الله على الانسان من مأكل ومشرب وراحة جنسية ... الخ فاذا دخل في الصوم اسلم نفسه لله وأصبح وهو خالص العبودية لله تعالى لا ينشغل عن عبادة ربه بأى شىء فهو منقطع للعبادة ولذا كان الصوم تقوية الارادة فأثبت أن اعظم وسيلة لذلك هى الصوم للعبادة(33) .
ولذا فالصوم تمام التسليم لله وكمال العبودية لله وما أظهر هذا التسليم والعبودية في الصوم خاصة ، فقد شرعه الله إيقاظا للروح وتصحيحا للبدن وتقوية الإرادة وتعويدا على البصر وتعريفاً بالنعمة وتربية للمشاعر والرحمة وتدريباً على كمال التسليم لله رب العالمين .
5ـ ومن المبادئ الأخلاقية للصوم إعداد الكائن البشرى لدوره على الأرض وتهيئة للكمال المقدر في حياة الآخرة لأن الصوم ترويض للجسد وخمد حركة شهواته وتنشيط المشاعر الروحية السامية (34) .
ففكرة الصوم عامة وهى فكرة كلية بمعنى الصوم العام وهو الإمساك عن المحرم سواء كان الإمساك حسى أو معنوى داخلى فالحس المادى يشمل أعضاء الجسم من رأس وما فيها من عين وأنف وأذن وفم ، ومعنوي وهو العقل ، وهو الصيام عن الفكر الخبيث ، والتوهم في المعانى الفاسدة ، وحكمة صيام الفكر تركه التدبير في شهوات الكائنات ، وصفاءه من إدراك السفليات ، لأن الفكر سراج نورانى ، وظيفته التدبر ، والتأمل بما في هذا الوجود من آيات تدل على وجود رب السموات والارض فيقول تعالى " إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ" (35) 0
ويقول الكتاب المقدس : " السماوات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه "(36)
وحكمة صيام العقل هو عدم الوقوف على الماديات وتأثيرها وتجاوز الأسباب بعد الأخذ بها والصعود منها إلي المصدر الذي يديرها وحكمة الروح تركها سجن البشرية وسياح الانسانية وفرارها إلي عوالمها الملكوتية وحقيقتها النورانية فتكون سفير المملكة الإنسانية إلي العوالم العلوية (37) ، وصيام القلب هو ترك التقلب فيما سوى الله واخراج الأغيار من بيت العزيز الغفار (القلب) وتعلقه بذات جلت عن الشبيه والمثيل (38)
ولذا قال بعض العلماء كم صائم مفطر وكم من مفطر صائم (39) ، لأن الصوم الصادق من العبادات التي تساعد الصائم على التغلب على كل الصعاب التي تعترض طريقه للتوصل إلي تعميق ودعم الجانب الروحى لديه (40) ، ويشير القرآن إلي أن الصوم هو التقوى 0
ويذكر الكتاب المقدس : " ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين فانهم يغيرون وجودههم لكى يظهروا للناس صائمين، الحق اقول لكم انهم قد استوفوا أجرهم وأما أنت فمتى صمت فادهن راسك وأغسل وجهك لكى لا تظهر للناس صائما بل لابيك الذي فى الخفاء فابوك الذي يرى فى الخفاء يجازيك علانية" (41)
وذلك فيه إشارة لتقرير الإرادة العازمة الجازمة في مجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد كما أنه مجال استعلاء على ضرورات الجسد كلها واحتمال ضغطها وثقلها إيثاراً لما عند الله من الرضا والمتاع .(42)