آداب الحوار
إن النظر فى الشرائع أمر عظيم حض عليه الشارع فى كتبه المقدسة ، حيث علم الإنسان أن الإله واحد ، وأن رسالة الرسل واحدة ، إلا إنه يكلف الإنسان بأمور تختلف من زمان لزمان 0
فيقو ل الكتاب المقدس(1) : ما سمعنا صوت الرب إلهنا لتسلك فى شرائعه التى جعلها أمامنا على يد عبيده الأنبياء ، ويقول فى العهد الجديد : لم آتى لأنقض الناموس بل لأتمم(2)
ويقول الله عز وجل فى كتابه الكريم : " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (3) ، ويحض الشارع الكريم على الاحترام وتقدير الآخر ، فيخاطب القرآن الكريم أتباعه معلماً وشارحا ومربيا آداب النظر فى الشرائع ، فيقول تعالى : " وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ " (4) ، مؤكداً فى قوله : " وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ " (5) 0
ومن ذلك المنطق أخذت أتحسس آداب الناظر فى الشرائع منتهجاً الأدب الرباني فى شرائعه وفى حوار كتبه المقدسة ، فى آداب منها (*): ـ
(*) أفرد الأمام الجوينى فصلاً فى كتابة "الكافية فى الجدل" حول آداب الجدال وأهم الآداب التى ذكرها على :ـ
1) أن يقصد الناظر التقرب لله تعالى وطلب مرضاته.
2) أن يتبدء كلامه يحمد الله تعالى والثناء عليه والصلاة على رسوله.
3) الا يجهر بصوته إلا على مقدار الحاجة.
4) تجنب أسباب الضجر والحده.
5) الالتزام بالخشوع والتواضع.
6) عدم الاسهاب فى الجدال وفى الباطل.
7) عدم مبادرة من ببغضه ويعاد به إذا لم يكن على القدر الكافى من العلم.
عدم الإعتماد على إعجاب الآخرين بكلامك.
9) التقرب الى الله تعالى حتى يعينك على تقوية ذهنك.
10) عدم الكلام فى مجالس الخوف والهيبة.
11) عدم الكلام فى مجالس لا يتساوى فيها الخصوم.
12) عدم الكلام فى مجالس اللهو.
13) تجنب استثغار من تناظرة والاستهزاء به.
14) عدم الكلام مع من لم يكن أهل المناظرة .
15) المحافظة على قدر الخصم وعدم انزاله عن منزلته ودرجته .
16) المحافظة على التبسم والاستبشار فى وجه الخصم .
17) المحافظة على الصبر فكل واحد من المتناظرين له الحق فى الكلام .
18) عدم الاعراض بالوجه وترك الاقبال وحسن الاستماع .
19) عدم مسامحة الخصم الا فى موضع يعلم فيه أنها لا تضر .
20) فهم الخصم وتفهم معاني كلامه على غاية الحد والاستقصاء .
21) عدم الزام الخصم مالا تتحققة لازماً .
راجع الكافيه فى الجدل، تحقيق د/ فوقية حسين محمود ، ص 529 ـ 541 بتصرف ط عيسى الحلبى 1979م .
التأدب في التخاطب والاحترام المتبادل
إن الباحث في الشرائع عليه بالأدب اللفظي والكتابي ، لخوضه في أمور شريفة عند أصحابها فيراعي ألفاظه وطريقة حواره ، وعليه النظر في مؤلفات الآخرين باحترام ، وإن لم يكن يعترف به، كقول نجم الدين الطوفي:(6) " أعلم أن هذه الكتب ما لا تقوم الحجة علينا بها لأنها عندنا محرفة مبدلة نعم التبديل لم يأت علي جمعيها بل دخلها في الجملة 0
فلهذا قال ( ) : " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا أمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون " (7) ، وقال ( ) : " ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش البذئ " (
، وعلي الباحث والمحاور أن يتقيد بالقول المهذب البعيد عن الطعن أو التجريح أو الهزء أو السخرية أو الاحتقار لوجهة النظر التي يدعيها أو يدافع عنها مع من يحاوره (9) ، لأنه عندما تتناول الكتاب المقدس تحتاج إلي روح الخشوع والوقار والإجلال للكلام الإلهي فمن نظر للكتب المقدسة بروح التواضع تتضح له أمور لم تظهر للناقد الطائش كأنها الغاز(10) 0
يقول القمص ميخائيل مينا : " يقرر القديس أوغسطنيوس في رسالته التاسعة عشر لايروينموس " ، حيث قال : " أنني قد تعلمت أن أسدي الورع والاحترام لتلك الكتب التي تسمى قانونية حتى إني أؤمن مصدقاً أن الذين كتبوها لم يغشوا في شئ مما كتبوه وما إن كنت ألاحظ أن في تلك الكتب موجود شئ يظنونه مناقضاً فإني لم أرى شيئاً آخر في ذلك سوى أنه قد يكون وقع (سهوا )من الناسخ أو أن المترجم لم يفهم ما قد قيل أو أني أنا لم أفهم ذلك " (11)
ولذا يوصي رحمة الله الهندي بالتفاهم وتحديد وضع المسائل المعظمة مثل نبيكم ونبينا (12) ، ومن يجنح عن ذلك المضمار ويسئ الألفاظ فيكون عليه الانتقاد ، وهذا ما ذكره صاحب الجدل الديني عند ابن حزم (13) ، عندما تكلم عن أسلوبه فقال " اتسم أسلوب ابن حزم الأندلسى بالوضوح والحدة والعنف والسخرية وذلك بارز في مواطن عديدة في مؤلفه ( الفصل في الملل والنحل ) (14) 0
فنجده يقول في رده علي اليهودي حين أثبت له أن مدة استعباد اليهود أقل من 400 سنة بسنين طويلة . فاعتذر اليهودي بأن 400 سنة تحسب من وقت مخاطبة الله تعالي لإبراهيم عليه السلام ، فاستشنع أبو محمد كلام هذا اليهودي وعلق عليه قائلاً : " فأراد هذا الساقط الخروج من مزيلة فوقع في كنيف عذره لأنه جاهل بالباطل وتعجل الفضيحة ونسب الكذب علي الله " (15) ، ويقول في موطن آخر " ذكروا شوقهم إلي القرع والقثاء والبصل والكراث والثوم الذي تشبه رائحته في الروائح عقولهم في العقول " (16) ، وفي مقولـة أخري (17) " تالله لولا أننا شاهدنا النصارى ما صدقنا أن من يلعب بعذره وما يخرج من أسفله يصدق بشئ من هذا الحمق " (18) 0
ونجد المفارقة بين ابن حزم في أقواله وأبيات الشافعي في ديوانه (19)
إذا مـا كنت ذا فضـل وعلـم بما اختلف الأوائـل والأواخر
فناظر مـن تناظـر في سكون حليمـا لا تـلـح ولا تكابـر
يفيدك مـا استفاد بـلا إمتنان مـن النكت اللطيفة والنوادر
وإياك اللجوج (20) ومن يرائي بأني قـد غلبت ومـن يفاخر
فإن الشـر في جنبات هــذا يمني (21) ، بالتقاطع والتدابر (22)
ولم يكن ابن حزم المثال الأوحد لسوء الأدب في بعض الأحيان ، وإنما نري ( خباب لوطر ) رئيس المصلحين ومقتدي البروستانت يقول في حق البابا سنة 1558م : " أنا أول من طلبه الله لإظهار الأشياء التي يوعظ بها فيما بينكم وإني لأعلم أن كلام الله المقدس عندكم أمش مشيا هينا يا بولس الصغير واحفظ نفسك ياحماري من السقوط احفظ نفسك يا حماري البابا ولا تقدم يا حماري الصغير لعلك تسقط وتنكسر الرجل لأن الهواء في هذا العالم قليل جدا حتى إن الثلج يوجد فيه دسومة أكثر وتزل فيه الأقدام فإن سقطت فيستهزء الخلف إن اتي أمر شيطاني هذا ابعدوا عنى أيها الأشرار الغير مبالين الحمقاء الأذلاء الحمير انتم تخيلون أنفسكم أنكم أفضل من الحمير إنك أيها البابا حمار بل حمار أحمق وتبقى حمارا دائما " (23) 0