مقارنة الاديان (آداب الحوار 2 ) النظر بهدف الحق
إن البحث في الشرائع شىء يصعب الخوض فيه بموضوعية كاملة ، فغالبا يقع الإنسان في براثن التعصب ، وغالبا ما ينحو الصراع الأيدلوجي بين الطوائف المختلفة في عقائدها ومذاهبها الدينية والسياسية منحى التعصب للمبدأ فيلجأ إلي ما يدعم فكره ورأيه وإن كان منافيا للمسلمات الأولية وحينئذ يشتد الجدل وتكثر المحاورات (24) 0
ويعضد ذلك ابن حزم في تقريبة في بيان هدف المقارن وهو الوصول للحق بحيث يتخلي عن التعصب لوجهة نظره السابقة ويعمل كل استعداده للبحث عن الحقيقة والأخذ بها عند ظهورها (25) 0
ولذا علي الناظر في الشرائع أن يوقن أن الحق لم يصبه الناس من كل الوجوه ولم يخطئوه من كل الوجوه بل أصاب بعضهم جهة منه وأصاب آخرون جهة أخرى وهذا لاختلاف الناس في قضايا الدين ويرجع لعوامل منها :-
أ ـ عدم وضوح الرؤية للموضوع من كل جوانبه .
ب ـ العكوف علي تقليد الغير دون دليل أو برهان .
ج ـ التعصب للـرأي والحسـد للغير علي ما آتاه الله من فضله والحرص علي المنافع الخاصة (26) 0
ولذا يجب علي الباحث أن يكون طالب حق كناشد ضآلة لا يفرق بين أن تظهر علي يديه أو علي يد من يعاونه ، ويرى رفيقه معينا لا خصما ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق (27) ، فيكون منصفا نزيها ، بعيداً عن التعصب الدينى والتأثر بالأهواء الطائفية أمين الضمير متوخياً الحقيقة يبحث عنها اني وجدها مبعدا نفسه وبحثه عن الروح التبشيرية التى يمليها التعصب (28) ، ويكون البحث عن الحق للحق ذاته ، ولذا قال ابن حزم لو اتفقت مصطلحات الناس لانتهت ثلاثة أرباع خلاف أهل الأرض " (29) 0
ولهـذا يجب علي الباحث أن يكون علي علم بقوانين المناظرة وقواعدها وآدابها ووجباتها (30) ، فنرى الغزالي ( أبو حامد ) ينصح تلميذه بألا يناظر أحداً في مسألة ما استطاع لأن فيها آفات كثيرة وإثمها أكبر من نفعها فهى منبع كل خلق ذميم كالرياء والحسد والكبر والحقد والعداوة والمباهاه وغيرها 0
فلو وقع مسألة بينك وبين شخص أو قوم واردت أن تظهر فيها الحق حتى لا يضيع جاز البحث لكن لتلك الإجازة علامتان إحداهما أن لا تفرق بين أن ينكشف الحق علي لسانك أو علي لسان غيرك والثانية أن يكون البحث في الخلاء أحب إليك من أن يكون في الملأ . (31)
ويجب عليك أن تعذر خصمك وتنصفه إن أصاب وفي ذلك يقول ابن قيم الجوزية : " والمنصف يهب خطأ المخطئ لإصابته ، وسيئاته لحسناته ، فهذه سنة الله في عباده جزاء وثوابا ، ومن ذا الذي يكون قوله كله سديدا ، وعلمه كله صوابا ؟ وهل ذلك إلا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، و نطقه وحى يوحى " (32) 0
فالوحي كله معصوم ، والبشر يؤخذ منه ويرد عليه ، ولذا يجب أن يسوغ الرد علي المخالف بالمتفق عليه مما يكون مكترثاً له ، أو يقوم الدليل العقلي عليه ، ولا يتأتى ذلك إلا بالتعلم على يد أهل هذا العلم المحققين الورعين ، ولذا قال عقبة بن نافع ( ): " تعلموا قبل الظانين " ، يقصد الذين يتكلمون بالظن(33) 0
معرفة لغة أهل الكتاب
من آداب النظر والبحث فى الشرائع معرفة لغات أهل الكتاب والترجمات ، حيث لا يقع الباحث فى تضارب النصوص واختلالها مثلما وقع فيه بعض الباحثين في مسألة الذبيح عندما أثبتوا بضرب النصوص بعضها ببعض بدون استخدام المنهج التاريخي في ذلك ، فقد ورد في التكوين (34) "خذ إبنك وحيدك الذي تحبه إسحق واذهب إلي أرض المريا واصعده هناك محرقة علي أحد الجبال الذي أقول لك" ففهم من هذا النص أن الذبيح هو إسحق واعلنوا فساد التوراة وتحريفها علي هذا النص مستدلين ما ورد في التكوين (35) 0
" ولدت هاجر لأبرام ابنا . ودعا اسم ابنه الذي ولدته هاجر إسماعيل . وكان أبرام ابن ست وثمانين سنه لما ولدت هاجر إسماعيل لإبرام " ، بأن إسماعيل هو الوحيد وأنه أكبر من أسحق بـ 14 سنه مستدلين (36) ، "حبلت سارة وولدت لإبراهيم ابناً في شيخوخته في الوقت الذي تكلم الله عنه ودعا إبراهيم اسم ابنه المولود الذي ولدته سارة إسحق وختن إبراهيم ابنه وهو ابن ثمانية أيام كما أمره الله . وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحق ابنه" .
ويري الباحث أن فهم اللغة المدون بها الكتب والتراكيب اللغوية أمر هام . لأنه كثيرا ما يقع المترجمون في خطأ لترجماتهم ، فيكون المراد خذ ولدك وحيدك الذي يعيش معك وتحبه ، أو محبوبك الوحيد إسحاق ، فليس هناك تضارب في النصوص أما إذا كان البحث في مسألة من الذبيح ؟
فعلينا البحث في النصوص من خلال التاريخ والرجوع إلي الزمان والمكان ، ويعضد ذلك ابن كثير(37) ، " هذا دليل كون إسماعيل الذبيح هو أنه المقيم في مكة وأسحق لا نعلم أنه قدمها في صغره وأن الكبش المضحى به رأسه معلقة علي الكعبة " ، فالتمسك بالترجمة الحرفية لكل لغة أمر عسير ، فلكل لغة تعبيراتها الخاصة التي قد يتعذر الحصول علي مقابل دقيق لها في لغة أخري وإنما الحرص علي أمانة توصيل المعاني وما يقصده المؤلف ، أما الأمانة في الترجمة لفظاً لفظاً ، فهي في الحقيقة خيانة لأنها تسبب غالبا ضياع وضوح المعاني(38) ، فحرف الكاف يستخدم كثيرا في الكتاب المقدس ليس كأداة تشبيه وإنما هى صنعة في الشيء مثل قوله : " أنا كمسيحي عضو في جسد المسيح " ، ليس أنك تشبه نفسك بمسيحي بل بصفتك مسيحى ، أو كما تقول " أنا كابن الله ، لي صورته ومثاله " ، فأنت هنا لا تشبه نفسك بابن الله ، وإنما تقول هذا بصفتك ابنا لله . وقد وردت الكاف كثيرا في الكتاب المقدس بهذا المعنى في قوله : " والكلمة صارت جسدا ورأينا مجداً مجداً كما لوحيد من الآب " (39) ، " لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله " (40) ، أي باعتباره إلها وليس مشبها بإله (41)، وهناك سؤال يطرحه أصحاب المسيحية قائلين : " هل أسلوب الكتاب المقدس المتناسق والمعزى مفهوم تماما في أيامنا الحاضرة " ؟ ، فهم يقولون أن القارئ المعاصر يتعثر أمام عدم الدقة في لغة الكتاب المقدس العبرية التي لا تميز بوضوح بين الغائية والتعاقب عندما يقال ( يريد الله ) قد يعنى بالعبرية لا إرادة ، بل الإذن .
ولذا ذهب إسبنوزا (42) ، في المبادئ الأساسية التي يجب عليها تفسير الكتاب بعضه ببعض في ضرورة فهم طبيعة وخصائص اللغة التي دونت بها الأسفار ثم تجمع في فقرات كل سفر علي حده ثم تصنيفها حتى يمكن العثور عليها بسهولة وعلي ما تكرر منها في موضوع واحد .
وتتلخص الخطوات التي يجب اتباعها في الفحص التاريخي وتتمثل في النقاط التالية :-
1- يجب معرفة خصائص اللغة التي دونت بها أسفار الكتاب المقدس وهى العبرية بالنسبة للعهد القديم ، بل معرفة اللغة العبرية أمر ضروري بالنسبة للعهد الجديد حيث أن أسفاره مملوءة بالتعبيرات العبرية 0
2- يجب تجميع آيات كل سفر وتصنيفها تحت موضوعات أساسية عددها محدد ثم جمع الآيات المتعارضة أو المتشابهة والمجملة وذلك بحسب استخدام اللغة والاستدلالات الكتابية لمبادئ العقل المجرد .
3- يجب ربط الفحص التاريخي بكل الظروف والملابسات المحيطة بالمؤلفين ، أعنى سيرة مؤلف كل كتاب وأخلاقه والغاية التي كان يرمى إليها ومن هو وفي أي مناسبة كتب كتابة وفي أي وقت ولمن وبأي لغة كتبه ، كما يجب أن يقدم هذا الفحص الظروف الخاصة بكل كتاب علي حدة (43)