مقارنة الاديان (آداب الحوار 4 ) النظر الدائم
إن علم النظر في الشرائع يجب أن يكون دائم، وأن ينظر في الآراء السابقة، وربطها بالواقع، حتى يتكون لدي الباحث رؤية شاملة ، ويقول الجاحظ في رسالته " أما بعد : فقد قرأت كتابكم وفهمت ما ذكرتم فيه من مسائل النصارى قبلكم ، وما دخل علي قلوب أحداثكم وضعفائكم من اللبس ، والذي خفتموه علي جواباتهم من العجز، ومـا سألتم من إقرارهم بالمسائل ومن حسن معونتهم بالجواب"(56)0
ويعضده ابن كمونه قائلا (57) : " وأما سائر ما ذكر من كلام المخالفين فبعضه مجرد تشنيع واستبعاد ، وبعضه لا يخفى علي المحصل وجه دفعه ولو بتكلف وأكثر هذه الأجوبة لم أجدها في كلام النصارى ولكنى أجبت بها نيابة عنهم وتتميما للنظر في معتقداتهم " 0
ويكرر الزنوجى قائلا : " فائدة المطارحة والمناظرة أقوى من فائدة مجرد التكرار لأن فيه تكرار وزيادة ، وقيل مطارحة ساعة خير من تكرار شهر ، لكن إن كانت المناظرة مع منصف سليم الطبيعة " (58) 0
فقد كثر الخلط في مصطلحات ومفاهيم عديدة بقصد وبغير قصد ممن عدوا أنفسهم وقفا علي الكتابات الدينية ، وإن إصرارنا علي نشدان السنن العلمية وعدم التساهل في آدابه وقواعده ، انما ينبع من إيماننا بأن الوفاء الدقيق بالقواعد العلمية والإخلاص الأصيل لها هو بكل بساطه الخطوة الطبيعية لتقدير الدين حق قدره وإدراك أكمل صور له ولأبعاده وغاياته ، وهنا ينبغي أن نحذر هؤلاء الذين يحسبون أنهم يخدمون دينهم بالانفعالات والتشنج وضيق الصدر فإن هؤلاء يسيئون للدين أضعاف ما يحسنون إليه (59) ، والذين يأخذون أقوالاً ظاهره بدون نظر فيها وينشرون أحاديث بدون تحقق من أهلها كما ورد في التكوين (60) ، " أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا " ، فالناظر للوهلة الأولي يظن إن لله تعالي أولاد لكن بالنظر الدائم وبالصيغ المتكررة في الكتاب يتضح له أن المراد بأبناء الله هم أولاد شيث وبنات الناس هم أولاد ( بنات ) قايين وجاءت هذه التسمية بعد موت هابيل وولد عوضا عنه شيث ولد أنوش " حينئذ ابتداء أن يدعي باسم الرب " (61) 0
وفي لوقا(62) ، ما يؤكد ذلك في سلسة النسب " ابن أنوش بن شيث بن آدم بن الله "، "فأبناء شيث دعوا ابناء الله لأنهم من النيل المقدس الذي يأتى من نوح ثم ابراهيم الذين أخذوا البركة من آدم " (63) ، أما أولاد قايين فلم ينتسبوا إلي الله لأنهم أخذوا اللعنة التي وقعت علي قايين كما جاء "فالآن معلون أنت من الأرض"(64)، وساروا في طريق الفساد فدعوا بأبناء الناس وكلهم أغرقهم طوفان نوح (65) ، فبالنظر تتحقق الأمور وتظهر ونستطيع بسهولة أن ندرك أن المقصود هو المعنى المجازي كما فسره الإنجيل نفسه قبل ذلك بقوله " أولاد الله أي المؤمنون باسمة " فكلمة ابن الله هنا أو أولاد الله يقصد بها المعنى المجازي الذي يدل علي عظمة الإيمان وقوة الصلة بالله (66) 0
فقد يستخدم الباحث كتابا نظر فيه فقراه ثم يستدل علي صحة ما فيه بغير إدامة النظر واستيعاب جوانبه مثال إنجيل برنابا الذي يرفضه النصاري ، كما يقول أ./ عوض سمعان : " أجمع العلماء الذين اكتشفوا الإنجيل المنسوب إلي برنابا ودرسوه دراسة دقيقة علي النسخة الأصلية منه التي ظهرت في أول الأمر سنة 1709م باللغة الإيطالية عند رجل يدعي كريمر ، وهو مخطوطة بمكتبة فينا أودعت سنة 1838م ولا تزال محفوظة هناك حتى الآن ، كما أجمعوا علي أن الرسم الموجود علي غلاف هذه النسخة هو من طراز عربي ، وأن الصفحة الأولي فيها عبارات مكتوبة باللغة العربية " ، مثل :
( الله عظيم ) ، ( إذا اردتم من الله شيئا ، ارد يتم خير الأشياء ) ، كما توجد هوامش عربية ، ولما فحص العلماء الورق المستخدم في هذه النسخة ودرسوا الخط والأسلوب المكتوب به ، اتضح لهم أنه كتب في القرن (16م) لا في القرن (18م) الذي اكتشفت فيه ، كما اتضح أن النسخة المذكورة لم تكن مترجمة من اليونانية التي كتب بها إنجيل المسيحيين في أول الأمر ، بل إنها مكتوبة أصلا باللهجة الإيطالية التي انتشرت بعد عصر دانتى ) (67) ، ويذكر رحمة الله الهندي أنه وقع في خطا مرتين لأنه لم يكن يدرك أهمية النظر الدائم في كتب الآخرين فيقول : " إن التبديل والإصلاح بمنزلة الأمر الطبيعي ..... ولذلك تري أنه إذا طبع كتاب من كتبهم مرة أخري يقع غالبا فيه تغير كثير بالنسبة إلي المرة الأولى إما تبديل بعض المضامين أو بزيادتها أو نقصانها أو تقديم المباحث أو تأخيرها فإذا قوبل المنقول عن كتبهم بالكتب المنقول عنها فيخرج النقل مطابقا وإلا يخرج غير مطابق غالبا فمن لم يقف علي عادتهم يظن أن الناقل أخطأ والحال أنه مصيب 0
وحصل هذا الأمر من عادات هؤلاء القسيسين وقعت أنا أيضا في المغالطة مرتين قبل العلم بعاداتهم فلابد أن يكون الناظر في هذا الأمر علي تنبه تام لئلا يقع في هذا الغلط " (68) 0
الاستنباط الثابت
يجب علي الباحث أن يبحث عن الحق للحق ذاته ، وعن المعرفة للمعرفة نفسها ، مراعيا الدقة في البحث ، والتمحيص في الاستنباط ، والأمانة في الحكم ، حتى لا تكون أقواله مشوبة بالشكوك والشبهات والأغراض والأكاذيب (69) 0
والاستنباط الثابت دائما ما يكون علي قواعد ثابتة فلا يصح أخذ قاعدة علي مسألة واحدة محددة ثم يقاس عليها مثل قوله تعالي " فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " (70) ، فعند سماع تلك الآية يفهم أن الله عز وجل بارك من في النار وهم في نظر المؤمن أهل عذاب بل إن البركة تتعداهم إلي من حولهم ، وذلك الاستنباط غير صحيح لأن من شروط التفسير ومنه الاستنباط إيصال النص بمعنى عدم نزعة من السابق عليه وعدم قطعة عن اللاحق بعده وكذلك بالنسبة للكتاب المقدس نجده ينتقل بسهولة من الأعداد الخالية من الكسور أو التقريبية إلي الاصطلاحات العرفية 0
ولـذا فمن الخطأ أن نفهمها دوما فهما حرفيا فالعدد (2) يعني بعضا (71) ، والضعف يعني الوفرة (72) ، وتكرار الحركة أو الكلمة ثلاث مرات يدل علي التشديد(73) ، أو الإلحاح أو صيغة تفضيل التفضيل (74)، والعدد (4) يشير إلي الأفق الجغرافي كله وكذلك الرياح(75) ، وهكذا فإن بيانات الأعداد في الكتاب المقدس يجب أن يتحقق من أنها صحيحة وسليمة لأن الأقدمين كانوا يستخدمون الحروف في كتابة الأعداد ، فكان من الممكن أن يطرأ علي النص تغيير أو حذف ، وبعد الاستنباط الثابت والتأكد من سلامة النص 0
يجب أن تسأل أيضا إن كان المؤلف يريد ويقصد بالعدد المذكور قيمة حسابية بالضبط أم تقريبية أم مجرد معناه الرمزي (76) ، ففى القرآن الكريم يقول تعالي " اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ"(77) 0
ما يؤكد أن العدد ليس المراد وإنما المراد به الكثرة فليس المراد بالاستغفار العدد ولكن المراد به الكثرة ، ولكى يكون الحوار مفيدا ونافعا يجب أن يقوم علي الحقائق الثابتة لا علي الظن وأن يبنى علي المعلومات الصحيحة لا علي الأخبار المضطربة(78) 0
ولذا علي الباحث أن يبحث دائما حتى يتوصل إلي قواعد يستنبط بها أحكامه ، ومن الملاحظ أن الإنسان كلما اتسعت دائرة معارفه كلما أدرك أنه في حاجة إلي المزيد ، وأحس بضالة ما وصل إليه ، وقد عبر عن هذه الحقيقة كثير من العلماء فقد قال الغزالي " العلم ثلاثة أشبار ، من تجاوز الشبر الأول تكبر ، ومن تجاوز الشبر الثاني تواضع ، ومن تجاوز الشبر الثالث علم أنه لم يعلم شيئا " (79) 0