فلسفة الأخلاق القرآنية
إن فلسفة الأخلاق في الإسلام تقوم على الشمولية الربانية، فهي الشريعة الخاتمة التي تضمنت كل ما في الشرائع السابقة، فاحتوت كل ما فيها من قيم ومثل ومبادئ وأخلاق، وهذه الصفة الشمولية جعلتها مستمرة إلى آخر الزمان، فاشتملت على المرونة في تعاملها مع البشر، فجمعت بين الواقعية والمثالية مراعية اختلاف طبائع البشر من فروق ومواهب واستعداد، فمن الناس من عنده استعداد لنوع معين من السلوك، ومن الناس من عنده استعداد لنوع آخر مختلف، ولما كان الإسلام ديناً عاماً يشرع للناس جميعاً، ويضع لهم قواعد أخلاقية سلوكية، فإنه راعي هذه الإستعدادات حتى لا يحرم أحداً من إشباع ميوله، وتحقيق مواهبه، ومن هنا فإنه لم يكتف في نظامه الأخلاقي بالقدر الواقعي حتى لا يحرم أصحاب العزائم القوية والقلوب المرهفة من أن يصعدوا في مدارج الكمال، وكذلك لم يكتف بالمثالية وحدها حتى لايكلف الناس مالا يطيقون، وإنما جمع بين الأمرين على نحو يتيح للجميع حرية الحركة والعبادة (1)
وهذه المرونة قائمة على أساسين هما دعائم الفلسفة الأخلاقية في الإسلام:
الدعامة الأولى: إخلاص العبادة لله الواحد القهار
وهي أننا نعبد الله تعالى ونفرده بالعبادة، فهو سبحانة لا رب غيره ولا إله سواه وتفضل سبحانة على خلقه بكثير من النعم والآلاء قال تعالى: " وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ "(2).
فمن حقه تعالى على عباده أن يعبدوه ويوحدوه ولا يشركوا بعبادته أحداً وقد ربطت الشريعة الإسلامية بين الجانب العقائدي وبين الجانب الأخلاقي إرتباطاً وثيقاً، وذلك واضح من خلال القرأن الكريم والسنة المطهرة، فمن مقتضى الإيمان بالله تعالى أن يكون المؤمنون ذوى خلق محمود، وإن الأخلاق السيئة دليل على عدم وجود الإيمان وعلى ذلك يمكننا أن نعرف مدى إيمان الشخص بمقدار ما يتحلى به من مكارم الأخلاق ونعرف مدى ضعف إيمانه بمقدار ما يتضمن به من ذميم الأخلاق(3).
وأول الطريق في تزكية النفس البشرية، ضبط الاستعداد الأخلاقى بمعيار العبودية لله، فلا يظهر خلق من أخلاقها إلا في الحدود التي حددها الله عز وجل للإنسان على لسان الأنبياء(4).
- الدعامة الثانية: غرس مكارم الأخلاق في النفوس (5)
وهي بعد الإيمان بالله تعالى وافراده بالربوبية، ثم الإيمان برسله فما من رسول يبعثه الله تعالى إلى قومه إلا كان يدعوهم إلى مكارم الأخلاق والتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، فكانت هذه الدعامة هي الجانب العملي في سلوك المؤمنين، وقد شمل القرأن الكريم العديد من الأمثلة الشارحة لهذه الفضائل على لسان الأنبياء، ففي قصة شعيب عليه السلام، قال تعالى: " وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُوا المِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا المِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ" (6)، فها هو يأمر أهله بالإيمان وإخلاص العبادة ثم ينهاهم عن التطفيف في المكيال والميزان.
وانظر إلى هود عليه السلام الذي عرف قومه بالقوة والغرور والتكبر قال تعالى : " يَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ، وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ"(7)
فهذه الآيات تدل على أن طريق الرسل في مكارم الأخلاق هو العبادة لله تعالى والإخلاص له ثم إعتناق مكارم الأخلاق، ولقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن على رأس المقاصد التي بعثه الله تعالى من أجل تحقيقها، غرس مكارم الأخلاق في النفوس فقال صلى الله عليه وسلم : إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق .(
فقد كانت الأخلاق طابع الرسالات السماوية وشعارها، ففي الحديث النبوي ، جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الدين؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حسن الخلق (9)
فالأخلاق الإسلامية عبارة عن قوة ذاتية تتمثل في المبادئ والقواعد المنظمة للسلوك الإنساني التي يحددها الوحي الإلهي فهي إذن قوة مركوزة في فطرة الإنسان تستمد مقوماتها من مصدر أعلى لتنظيم حياته على نحو يحقق الغاية من وجوده، فالأخلاق في مفهوم الدين المنزل من عند الله تعالى ضوابط وكوابح لتزكية النفس، وترويض الغرائز، وتصعيدها، والسمو بها(10)، وعلى ضوء هذا يتضح أن :
1- الأخلاق الإسلامية كانت دعوات الرسل جميعا قبل الرسول صلى الله علية وسلم.
2- الغاية من الرسالات هي تتميم مكارم الأخلاق.
ومن هذا المنطلق كانت عناية الإسلام عقيدة وسلوكاً بالأخلاق ،لأنها هي الجانب التطبيقي في سائر علاقاته، والسمو بهذه العلاقات هو الهدف الأساسي للدين، وهذا ما يؤكده تعالى في قوله: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده...."
فالشريعة الإسلامية وحي من الله تعالى مثل باقي الشرائع، والأخلاق الموحي فيها مثل باقي أخلاق الأمم السابقة، ولذلك كانت الأخلاق القرآنية مهيمنة على باقي الشرائع، يقول تعالى:(11) "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" (12)
فقد كمل هذا الدين (الأخلاق والشريعة والعقيدة) وتمت به نعمة الله تعالى على كل المسلمين، ورضيه لهم منهج حياة للناس أجمعين، ولم يعد هناك من سبيل لتعديل شيء فيه ولا تبديله ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر، وقد علم الله حين رضيه للناس أنه يسع الناس جميعا (13) فيقول تعالى: " اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " (14)
فالقرآن كتاب هداية،وأية فعلية لا كتاب فن وعلم نظري، فهو يرشد متدبره والمتفقه فيه إلى دعوتي الحق والخير، والباطل والشر من نفسه وإلى طريق تزكيتها بمحاسبة النفس على أعمالها، لتغلب الحق والخير على ضدهما، ونجد هذا التهذيب والتثقيف فيه يدور على أمرين فطريين ولا يتوقف فهمهما على فلسفة أرسطو ولا ابن سينا.
وهو مجاهدة النفس بالتخلي عن اتباع الهوى، والتحلي بالفضيلة (التقوى) وقد تكرر ذم إتباع الهوى والنهي عنه وتعليله أنه يصد عن الحق والعدل (15)
والهدف الأسمى من العقائد والشعائر والعبادات جميعاً إنما هو بناء الأخلاق ولم ترد عبارة في القرآن الكريم إلا وهي مرتبطة بهدفها الأخلاقي في واقعية واضحة (16)
حيث أهتم الإسلام بالجانب الأخلاقي اهتماماً بالغاً لا يقل عن جانبي العقيدة والشريعة ، لأن الأخلاق تلازم المسلم في جميع أحواله ، ولأن الإسلام ينظر للأخلاق علي كونها أساس الدين ، فقد جاء رجل يسأل النبي ( ) قائلاً : ما الدين يا رسول الله ؟ قال : ( ) الدين حسن الخلق (17) 0
ويعلم النبي ( ) أتباعه أن الأخلاق دعوة الأنبياء ، وأنهم قد سبقوه في الدعوة إلي مكارم الأخلاق ، وأنه جاء كما يقول ( ) " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " (18) 0
ويوضح ( ) صفات المؤمنين قائلا " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً " (19) ، حيث تقوم الأخلاق الإسلامية علي أصلين هما : أن نعبد الله وحده ، وأن نعبده بما شرعه لا نعبده بالبدع ، قال تعالي : " قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً " (20) 0
والعمل الصالح ما أحبه الله تعالي ورسوله ، ولذلك كان الفاروق عمر يقول " اللهم اجعل عملي كله لوجهك خالصاً ولا تجعل لأحد فيه شيئا " (2