الأخلاق بين التوراة والإنجيل
تتفق الأخلاق اليهودية والمسيحية على أساس إلهي ثابت ، فهما يرون أن عالمنا هذا كان موطن وحي سماوي ، قد تجلي فيه الإله بذاته ، وجاء وسط بني الإنسان فكان يظهر في عمود سحاب (1) ، لبني إسرائيل في صحراء تيههم ، وكذلك في صورة السيد المسيح ، ويرون أن هذا الوحي الإلهي عرفهم حقائق يسيرون عليها وصولا للملكوت الرباني 0
وسواء نظرنا في الشريعة الموسوية أو المسيحية فإننا نلاحظ مبدأ يتفقان عليه ، ألا هو أن الأخلاق يجب أن تستنبط من النصوص المقدسة المقروءة بتدبر ، فكلا الناموسين صادرين عن الله ، وكلا الناموسين يأمر بوجوب حفظ الوصايا القديمة التي تسلمها موسى من الله تعالي على الجبل ، وكلا الناموسين يجعلان محبة الله رأس الوصايا(2) 0
فالأخلاق اليهودية وأحكامها منشورة في ثلاثة أسفار أساسية في العهد القديم وهم :
(1) سفر الخروج 0
(2) سفر الأخبار 0
(3) سفر التثنية 0
وهو يحتوي على كثير من الأخلاق والتشريعات الموسوية 0
فالعهد القديم يشمل التشريع ، وليس الفضيلة إلا فهمها وتطبيقها في كل حالة تعرض ، والتزامها بانتظام وخضوع 0
وإذا نظرنا إلي الإنجيل نجد فرقا كبيرا ، مع أنه لا يمكن للمسيحي أن يفصل الإنجيل عن العهد القديم ، لأنه يشتمل على تنبؤات عن السيد المسيح ، ومع ذلك فإن التشريع المسيحي يختلف عن اليهودية ، وتنتهج الأخلاق المسيحية نهج الجوانب التشريعية ، فتختلف الأخلاق الإنجيلية عن الأخلاق التوراتية ، لكن هذا الاختلاف لا يناقض الأخلاق وإنما هو سمو للأخلاق ، للوصول إلي روحانية عليا، تتعدى مرحلة اليهودية 0
فإذا نظرنا في منهج التربية النفسية لدى المسيحية نجدها تهتم بتربية نفوس أتباعها على البساطة والتواضع والطهارة ، وفى الجانب التشريعي الأخلاقي نجد المسيحية ترتقي بأتباعها عن اليهودية في تشريع النهى عن القتل والزنا والحنث في القسم أما في الجانب الأخلاقي فنجد الاختلاف ظاهر وكذا النظرة إلي المخالف والآخر ، وختاما بالنظرة الأخروية بين المسيحية واليهودية 0
وهذه أمثلة قليلة من العديد من الاختلاف الأخلاقي ولم نطل بالقلم حتى لا يطول المقام ونفصل تلك النماذج 0
النموذج الأول :
الاختلاف في منهج التربية النفسية في نفوس أصحاب الشريعتين ففي الإنجيل "اكنزوا لكم كنوزاً في السماء "(3) 0
فهو يربي أتباعه على غرس الفضائل التي يحتقرها كبرياء الإنسان مثل بساطة القلب والتواضع والطهارة موضحا ذلك في قوله بالكنز السماوي وليس بما في أيدي البشر موضحا ذلك في قوله :
" سـعداء هـم السـذج لأن مملكة السماء لهم
سـعداء هـم الرحمـاء لأنهـم سـيرحمـون
سعداء هم أطهار القلوب لأنهم سيرون الله " (4)
أما اليهودية : فهي تنظر إلي أرض الواقع فتربي أتباعها على الحقوق الإلهية وعدم التهاون مع الغير ومع المخطئ(5) ، فتقول التوراة : "حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلي الصلح ، فإن أجابتك إلي الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها فيكون لك للتسخير ويستعبد لك وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا مخاصرها . وإذا دفعها الرب إلهك إلي يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ...... هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة من جدا ... وأما مدن هؤلاء الشعوب(6) ، التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة "(7) 0
وهكذا نجد المفارقة في النظرة الأخلاقية بين منهج التربية بين الإنجيل والتوراة ، فالإنجيل يدعوا إلي التفكير في حياة أخروية وأن يجمعوا الثروة التي لا تفني والتي يستمتعون بها بعد أن يفارقوا هذا العالم(
0
بينما التوراة اليهودية يندر التحدث فيها عن الدار الآخرة ويذكر ابن حزم(9) عن الدار الآخرة عند اليهود فيقول(10) : " وأما التوراة التي بأيدي اليهود فليس فيها ذكر لنعيم الآخرة أصلا ولا جزاء بعد الموت "(11) 0
لكن يقع في أيدينا ما يؤكد على وجود نصوص عن الدار الآخرة في التوراة وعلى الملكوت السماوي ، إلا أن علماء اليهودية يريدون إبراز الجانب الدنيوي العاجل عن الآجل الأخروي ، ففي سفر أشعياء ما لفظة(12) " يقوم الموات ما ويستيقظ الذين فى القبور " استعداداً لتقبل عمل الرب فى قوله " فيقول : " لم تري عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه "(13) 0
ويقول داود عليه السلام عن عذاب الجحيم في الآخرة(14) ، فيقول : " يمطر على الأشرار فخاخا نار وكبريتا ، وريح السموم تصيب كأسهم " (15) 0
وهذا النعيم والعقاب من الله تعالي لعباده بعملهم ، فهو يجازيهم بأفعالهم لأنه تعالي له كتباً ودواوين محفوظة فيها أعمال الصالحين والطالحين 0
فيقول موسى(16) ( ) : " والآن إن غفرت خطيئتهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت "(17) 0
فذاك دليل على وجود ذكر الدار الآخرة والحساب الأخروي ، لكن الفرق في المنهج ما يدعو إلي اللطف والتسامح الدنيوي والعقاب العاجل للأعداء في الدنيا وعدم الاكتراث في البناء الأخروي والحياة الأبدية 0
النموذج الثاني :
الاختلاف الأخلاقي في القتل ، نجد الاختلاف اليهودي المسيحي فقد نهت اليهودية عن القتل ، بينما المسيحية ذهبت إلي أبعد من هذا فنهت عن التفكير فى الإساءة على العموم ورذل الغضب والبغض واحتقار الغير(18) 0
فيقول الكتاب : " قد سمعتم أنه قيل للأولين لا تقتل فإن من قتل ، يستوجب الدينونة وأمام أنا فأقول لكم إن كل من يغضب عل أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم " (19) ، فهذا الترقي الخلقي ، جعل المسيحية المتسامحة تختلف عن اليهودية التي جعلت الحس الفعلي أساس الدينونة وليس التفكير والهم الفعلي ، وتتضح هذه الرؤية في القصاص التشريعي في اليهودية والمسيحية 0
النموذج الثالث :
ونجد في القصاص وأخلاقه اختلافا أخلاقيا بين اليهودية والمسيحية ، ففي التوراة قانون القصاص شديد ، فهو يقابل الشدة بالشدة ، والعنف بالعنف 0
فيقول الكتاب : " من قتل فعقابه القتل ، ومن قتل حيوانا فإنه يلزم بحيوان مثله ، ومن أهان أحد مواطنيه يهان بمثل إهانته ، العين بالعين والسن بالسن "(20) ، والجروح قصاص 0
فالقارئ لهذا النص ولغيره من مسائل القصاص يجد طابع الصرامة وعدم التهاون مع الغير ، فلا موطن للرحمة أو التسامح 0
أما في المسيحية فإننا نجد روح التسامح التي تتبع من قول السيد المسيح : " لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فأترك له الرداء أيضاً "(21) 0
وهكذا نجد اتجاه الأخلاق اليهودية التي يسود فيها فكرة العدل الثأري بينما الأخلاق المسيحية تسود فيها فكرة الحب والإحسان والعفو ، نحو الآخرين وعدم مقابلة الشر بمثله ، والتمسك بطهارة القلب تلك هي الروح السائدة في الإنجيل فطهارة القلب هي العماد(22) ، فقد اكتفت اليهودية بإتمام الواجب العدل لينال الإنسان النجاة 0
أما المسيحية فأوضحت لأتباعها بأن العدل وحده يحجر القلوب إن لم تمازحه دفقة من المحبة(23) ، كما يقول الكتاب في قصة الغني ولعازر (24) 0
النموذج الرابع :
في الجانب التشريعي الأخلاقي ، فالتوراة في الوصية السابعة " لا تزن "(25) ، فهي من وصايا اللوح الثاني وهى تنهي عن كل فروعه وأنواعه ، وكان العلماء يعتقدون أن المتعدي على هذه الوصية هو من زني فعلا 0
بينما المسيحية ترتقي في أخلاقها عن اليهودية في ذلك الجانب التشريعي فيقول الكتاب " من نظر إلي امرأة ليشتهيها فقد زني بها في قلبه "(26) 0
ومن ثم لا تطلب الشريعة الطهارة الخارجية فقط بل الداخلية أيضاً ، فيقول القديس يوحنا : فم الذهب " إنه ينبغي لمن يريد الانتصار على هجوم الأفكار الدنسة أن يكون حاملاً بشماله ناراً وبيمينه ماء حتى اضطرمت النار يطفئها حالا بالماء أي إذا اضطرمت فيه نيران الشهوة بادر إلي إطفائها بماء الصلاة "(27) 0
ويقول أحد القديسين " لا تجلس وحدك مع امرأة ولا تقابلها على انفراد دون حضور أحد معك "(28) ، لأن هذه الجلسة تؤدي إلي الأفكار الدنسة الموقعة في الخطية المحرمة ، ولذا يقول أحد القديسين " تحاشي ما ساء من الأفكار والنظر والمعاشرات تعش طاهرا "(29) 0
النموذج الخامس :
في الجانب التشريعي الأخلاقي ، فالتوراة في الوصية الثالثة : " لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا "(30) ، فهي توصي بعدم التهاون والاستخفاف باسم الله بدون مراعاة الرهبة والاحترام والنهى عن القسم باسمه تعالي على صحته ما هو كاذب 0
بينما المسيحية ترتقي لمنزلة عليا في عدم إباحة الحلف إلا في قاعة القضاء(31) ، فيقول الكتاب " سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث بل أوف للرب اقسامك وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة لا بالسماء ... ولا بالأرض .... ولا بأورشليم .... ولا برأسك ... بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا "(32) 0
النموذج السادس :
في جانب الاهتمام بالتعبد الظاهري للإنسان ، ففي التوراة : " إذا حملت قربانك إلي الهيكل ثم تذكرت أن في نفس أخيك منك شئ فاترك قربانك أمام الهيكل وعد لتصلح بينك وبين أخيك أولاً تعزو وبعد ذلك عد إلي الهيكل وقدم قربانك " 0
فإذا كانت اليهودية تعزو إلي الطقوس في مظهرها الخارجي بعض القيم فإن الإنجيل يرى أن لا قيمة لها على الإطلاق إلا إذا صدرت عن روح طاهرة 0(33)
النموذج السابع :
في جانب النظر للمخالف والآخر ، ففي التوراة " حب قريبك وابغض عدوك " (34) ، فهي تربي أخلاق أتباعها على حب الأصدقاء وبغض الأعداء والمخالفين 0
بينما في المسيحية تقول : " سمعتم أنه قيل حب قريبك وابغض عدوك أما أنا فأقول أحبوا أعداءكم " (35) ، فترتقي بأتباعها بالتسامح في أعلي درجاته ونبذ الكره من قلوب المؤمنين 0
فيقول السيد المسيح : " أحبوا أعدائكم وباركوا لأعينكم واعملوا الخير لمن يبغضكم وصلوا لمن يسيئكم ويعذبكم "(36) 0
وبهذه النماذج يتضح اختلاف الأخلاق بين الأخلاق اليهودية والمسيحية ، فكل له تشريعه والكل يدعو للأخلاق لكن هناك سمو أعلي في أخلاق المسيحية عن اليهودية مما أدي إلي إعلاء المسيحية بالروحانية واليهودية بالدنيوية الواقعية 0