مفاهيم
الغيب
بقلم:د. محمد عمارة
كل الديانات السماوية تؤمن بالغيب.. وتجعل الإيمان بالغيب عقيدة من العقائد التي لا يكتمل الإيمان بدون التصديق بها.. فهناك عالم الشهادة, الذي يشهده الإنسان, وتدرك حقائقه وقوانينه العلوم والعقول وأدوات الإدراك الإنسانية.. وهناك عالم الغيب, الذي لا تدرك العقول الإنسانية ـ التي هي نسبية الإدراك ـ جوهر حقائقه وكنه مكوناته..
وإن أدركت ـ بواسطة الأمثال التي يضربها الله للناس ـ تصورات مجملة لما في عالم الغيب هذا من حقائق ومكونات ـ ما رأتها عين.. ولا سمعتها أذن.. ولا خطرت علي قلب بشر ـ..
والذين لا يؤمنون بعالم الغيب هم الماديون والدهريون وأصحاب الفلسفات الوضعية ـ القديمة والحديثة ـ وبعض المتدينين بالديانات الوضعية ـ غير السماوية ـ التي انتشرت في جنوب غربي آسيا.. أي عموم الذين لا يؤمنون إلا بما هو معقول ومحسوس, تدركه الحواس..
وهؤلاء الماديون والدهريون والوضعيون, مثلهم كمثل الإنسان الغبي الذي ينظر ببصره, فيري الأفق منطبقا علي الأرض عند نهاية قدرته البصرية, فيحسب أن نهاية نظره وبصره هي نهاية الأفق! وأنه لا وجود لشيء وراء هذا الذي يدركه بحاسة البصر.. فهو يؤله بصره, ويخرج حواسه من النسبية إلي الإطلاق.. ويحسب أن علمه النسبي ومداركه ومعارفه النسبية هي المطلق والكلي والمحيط..
فينكر ما وراء المادة المحسوسة.. وينكر ما وراء مدركات الحواس.. ومن هؤلاء أولئك الذين صاحوا: لا سلطان علي العقل إلا للعقل وحده!.. مؤلهين العقل, ومخرجين قدراته من النسبية إلي الإطلاق!.. مع أنهم ـ في الوقت نفسه ـ يريدون نفي الإطلاق عن الحقائق والعقائد الدينية, التي هي علم إلهي, كلي ومطلق ومحيط!..
وفي مقابل هذا الغباء المادي, وضيق الأفق الدهري, الذي ينكر المغيبات التي لا تدركها الحواس الإنسانية, تأتي النظرة الإيمانية, التي اجتمعت عليها كل الديانات السماوية والشرائع الدينية, وأيضا الفلسفات الإلهية, علي مر تاريخ الإنسان..
ولأن الإسلام ـ علي وجه الخصوص ـ مؤسس الإيمان بالغيب علي المنطق والعقل, فإنه يقول: إذا كان الإنسان تغيب عن مداركه حقائق ووقائع في عالم الشهادة الذي يدركه ويعيش فيه, بدليل أنه يكتشف اليوم ما كان مغيبا عنه وغيبا بالنسبة له في الأمس.. كما أنه يغيب عنه ـ من مكونات وحقائق عالم الشهادة ـ ما ليس غائبا عن غيره من الذين هم أكثر علما منه.. فمن باب أولي أن تكون هناك مغيبات في عالم ـ أو عوالم أخري ـ لا تدركها قدرات الإنسان النسبية الإدراك..
كذلك تقول الفلسفة الإيمانية الإسلامية, للماديين والدهريين الذين ينكرون وجود ما وراء مدركات الحواس: إذا كان هناك فارق بين الخالق المخلوق.. وفارق بين العلم الإلهي الكلي والمطلق والمحيط وبين العلم الإنساني الجزئي والنسبي.. فإن علي الإنسان أن يؤمن بأن فوق كل ذي علم عليم, وأن يصدق بنبأ السماء العظيم الذي جاءت به الديانات, وقالت فيه: إن هناك عالما للغيب وراء عالم الشهادة, هذا الذي يعيش فيه الإنسان..
وإن الموت والبعث هو السبيل لانتقال هذا الإنسان من عالم الشهادة الفاني إلي عالم الغيب والخلود..
إن إنكار وجود ما لا تدركه الحواس ـ وهي نسبية الإدراك ـ هو غباء فلسفي! لا يليق بالعقلاء!؟