[size=21]مفاهيم الغلو الديني
بقلم: د. محمد عمارة
لقد جاء الإسلام وسطا بين غلوين, ويسرا بين تشددين, غلو المادية الجسدانية, وغلو الروحانية التي تعذب الأجساد, لكن التشدد والتنطع قد عرف طريقه إلي الفقه والفكر الإسلامي, وإن بقيت الوسطية والتيسير هي السمة الغالبة علي فكر المسلمين ومذاهبهم.
وفي أسباب تسلل التشدد والتنطع إلي الفكر الإسلامي يقول الإمام عبدالرحمن الكواكبي(1270 ـ1320 هـ/1854 ـ1902 م:
لقد وجد فينا علماء كان أحدهم يطلع في الكتاب أو السنة علي أمر أو نهي, فيتلقاه علي حسب فهمه, ثم يعدي الحكم إلي أجزاء المأمور به أو المنهي عنه, أو إلي دواعيه, أو إلي ما يشاكل ولو من بعض الوجوه, وذلك رغبة منه في أن يلتمس لكل أمر حكما شرعيا, فتختلط الأمور في فكره, وتشبه عليه الأحكام, لاسيما من تعارض الروايات, فيلتزم الأشد, ويأخذ بالأحوط, ويجعله شرعا, ومنهم من توسع فصار يحمل كل ما فعله أو قاله الرسول عليه السلام علي التشريع, والحق أن النبي صلي الله عليه وسلم قال وفعل أشياء كثيرة علي سبيل الاختصاص أو الحكاية أو العادة.
ومن العلماء من تورع فصار لا يري لزوما لتحقيق معني الآية, أو للتثبت في الحديث إذا كان الأمر من فضائل الأعمال, فيأخذ بالأحوط ويعمل به, فيقع في التشديد, ويظن الناس منه ذلك ورعا وتقوي ومزيد علم واعتناء بالدين, فيميلون إلي تقليده, ويرجحون فتواه علي غيره.
وهكذا بالتمادي عظم التشديد في الدين حتي صار إصرا وأغلالا, فكأننا لم نقبل ما من الله به علينا من التخفيف فوضع عنا ما كان علي غيرنا من ثقيل التكليف وما جعل عليكم في الدين من حرج( الحج:78), ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم( الأعراف:157), وعلمنا سبحانه كيف ندعوه بعد أن بين لنا أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها( البقرة:286) فنقول: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته علي الذين من قبلنا, وأمرنا بقوله تعالي: لا تغلوا في دينكم( النساء:108).
وقد ورد في الحديث: لن يشاد الدين أحد إلا غلبه رواه البخاري, وهلك المتنطعون رواه مسلم, أي المتشددين في الدين.
ولقد ظن بعض الصحابة أن ترك السحور أفضل, فنهاهم النبي عليه السلام عن ظن الفضيلة في تركه, وقال عمر رضي الله عنه في حضور رسول الله صلي الله عليه وسلم لمن أراد أن يصل النافلة بالفرض: بهذا هلك من قبلكم, فقال النبي عليه السلام: أصاب الله بك يا ابن الخطاب رواه أبو داود.
وأنكر النبي عليه السلام علي عبدالله بن عمرو بن العاص التزامه قيام الليل وصيامه النهار واجتناب النساء, وقال له: أرغبت عن سنتي؟!, فقال: بل سنتك أبغي, قال: فإني أصوم وأفطر, وأصلي وأنام, وأنكح النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني رواه البخاري ومسلم.
وقد كان عثمان بن مظعون وأصحابه عزموا علي مواصلة الصوم, وقيام الليل, والاختصاء, وكانوا حرموا الفطر علي أنفسهم ظنا أنه قربة إلي ربهم, فنهاهم الله عن ذلك لأنه غلو في الدين واعتداء عما شرع, فأنزل: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين( المائدة:87), أي أنه لا يحب من اعتدي حدوده وما رسمه من اقتصاد في أمور الدين.
وقد ورد في الحديث الصحيح قوله عليه السلام: والذي نفسي بيده ما تركت شيئا يقربكم من الجنة ويباعدكم من النارإلا أمرتكم به, وما تركت شيئا يقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا نهيتكم عنه رواه البخاري ومسلم.
فإذا كان الشارع يأمرنا بالتزام ما وضع لنا من الحدود, فما معني نظرنا الفضيلة في المزيد؟! وورد في حديث البخاري: إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته, وبمقتضي هذا الحديث ما أحق بعض المحققين المتشددين بوصف المجرمين!
هكذا تحدث الكواكبي عليه رحمة الله عن التشدد والمتشددين والتنطع والمتنطعين في الدين.
** منشور بجريدة "الاهرام" المصرية بتاريخ 3 سبتمبر 2007
[/size]