من الشبهات التي رددها أذناب المستشرقين قولهم :
" لو كانت السنة ضرورية لحفظها الله كما حفظ القرآن في
قوله تعالى :{ إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون } ،
ولأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابتها كما أمر بكتابة القرآن " .
وقولهم في الحديث الذي يقول فيه النبي - صلى الله عليه وسلم : -
( ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه ) ، : " لو كان هذا الحديث
صحيحاً لما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة السنة ،
ولأمر بتدوينها كما دون القرآن ، ولا يمكن أن يدع نصف ما أوحي
إليه بين الناس بغير كتابة ، ولا يكون حينئذ قد بلغ الرسالة وأدى
الأمانة كاملة إلى أهلها ، ولماذا ترك الصحابة نصف الوحي
ولم يدونوه ، فبإهمالهم له يصبحون جميعاً من الآثمين " .
الرد على هذه الشبهة:
إن الله عز وجل كما أراد لهذه الشريعة البقاء والحفظ ،
أراد سبحانه أيضاً ألا يكلف عباده من حفظها إلا بما يطيقون
ولا يلحقهم فيه مشقة شديدة ، فمن المعلوم أن العرب كانوا أمة
أمية ، وكان يندر فيهم الكتبة ، وكانت أدوات الكتابة عزيزة
ونادرة ، حتى إن القرآن كان يكتب على جريد النخل والعظام
والجلود ، وقد عاش النبي - صلى الله عليه وسلم -بين أصحابه
بعد البعثة ثلاثًا وعشرين سنة ، ولهذا كان التكليف بكتابة الحديث
كله أمرا ًفي غاية الصعوبة والمشقة ، لأنه يشمل جميع أقواله
وأفعاله وأحواله وتقريراته - صلى الله عليه وسلم - ولِما يحتاجه
هذا العمل من تفرغ عدد كبير من الصحابة له ، مع الأخذ في الاعتبار
أن الصحابة كانوا محتاجين إلى السعي في مصالحهم ومعايشهم ،
وأنهم لم يكونوا جميعا يحسنون الكتابة ، بل كان الكاتبون منهم
أفراداً قلائل ، فكان تركيز هؤلاء الكتبة من الصحابة على كتابة
القرآن دون غيره حتى يؤدوه لمن بعدهم تامًا مضبوطًا
لا يُنْقص منه حرف .
ومن أجل ذلك اقتصر التكليف على كتابة ما ينزل من القرآن
شيئاً فشيئاً حتى جمع القرآن كله في الصحف .
وكان الخوف من حدوث اللبس عند عامة المسلمين
فيختلط القرآن بغيره - وخصوصاً في تلك الفترة المبكرة
التي لم يكتمل فيها نزول الوحي - أحد الأسباب المهمة
التي منعت من كتابة السنة .
ثم إنه لم يحصل لحفاظ السنة في عهد الصحابة ما حصل
لحفاظ القرآن ، فقد استحرَّ القتل بحفاظ القرآن من الصحابة ،
أما السنة فإن الصحابة الذي رووا الحديث عن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - كانوا كثر ، ولم يحصل أن استحر
القتل فيهم قبل تلقي التابعين عنهم .
ومن الأسباب أيضاً أن السنة كانت متشعبة الوقائع والأحداث
فلا يمكن جمعها كلها بيقين ، ولو جمع الصحابة ما أمكنهم فلربما
كان ذلك سبباً في رد من بعدهم ما فاتهم منها ظناً منهم أن ما جمع
هو كل السنة .
ثم إن جمعها في الكتب قبل استحكام أمر القرآن كان عرضة لأن
يُقبِل الناس على تلك الكتب ، ويدعوا القرآن ، فلذلك رأوا أن يكتفوا
بنشرها عن طريق الرواية ، وبعض الكتابات الخاصة .
أضف إلى ذلك أن القرآن يختلف عن السنة من حيث أنه متعبد
بتلاوته ، معجز في نظمه ولا تجوز روايته بالمعنى ، بل لا بد
من الحفاظ على لفظه المنزل ، فلو ترك للحوافظ فقط لما أمن أن
يزاد فيه حرف أو ينقص منه ، أو تبدل كلمة بأخرى ، بينما السنة
المقصود منها المعنى دون اللفظ ، ولذا لم يتعبد الله الخلق بتلاوتها ،
ولم يتحداهم بنظمها ، وتجوز روايتها بالمعنى ، وفي روايتها بالمعنى
تيسير على الأمة وتخفيف عنها في تحملها وآدائها .
وقد بلَّغ - صلى الله عليه وسلم - الدين كله وشهد الله له بهذا البلاغ
فقال سبحانه : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ
فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } ،
ووجود السنة بين الأمة جنباً إلى جنب مع القرآن الكريم فيه أبلغ دلالة
على تبليغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - إياها لأمته وبالتالي لم
يضع نصف ما أوحاه الله إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما زعم
الزاعمون - ، بل الجميع يعلم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتمتعون
بحوافظ قوية ، وقلوب واعية ، وذكاء مفرط ، مما أعانهم على حفظ السنة
وتبليغها كما سمعوها ، مستجيبين في ذلك لحث نبيهم
- صلى الله عليه وسلم - لهم في الحديث الذي رواه الترمذي
و غيره بقوله ( نضر الله امرءاً سمع مني مقالة فحفظها فأداها
كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع).
فتم ما أراده النبي - صلى الله عليه وسلم - من حفظ السنة وتبليغها ،
ويكون بذلك - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ دين الله عز وجل كاملاً
ولم ينقص منه شيئاً .