الحج مشاعر وزكريات (مكتوبة) إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما . أما بعد ،،، فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار . معاشر المسلمين : إن الكيس يجد في طلب الخيرات ، ويغتنم جل وقته في الباقيات الصالحات ، ويلج من كل باب يفتح له ليصل إلى الجنات ، ويغلق كل منفذ قد يوقعه في الحرمات . وها نحن اليوم في أيام عظيمة ، تتجلى فيها الرحمة ، وتزداد فيها النفحات ، فيا مريدا للخير أقبل ، يا مترددا في التوبة اعزم ، وول وجهك شطر المسجد الحرام ، حيث انبثق النور ، وسال وادي الرحمة يتدفق على العالمين ، يحمل معه البشرى ، وينشر اليقين ، معلنا استسلامه للملك الحق المبين . يجول بخاطره وهو ينظر إلى ثرى مكة ، فيرى خيال الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو يخطو خطواته الأولى هاديا ومبشرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا . ففي المشاعر ذكريات ، وفي ربى الحرم جهاد وصبر وتضحيات ، وألم وهزء ومقاطعة وجوار ، ودموع ساخنات ، قرحت خدود المتقين ، من نفوس خاشعات . قف أيها المسلم مع اللوحة الأولى من لوحات الدعوة ، وانظر عبر نافذة التاريخ إلى محمد بن عبدالله ، وقد أنزل الله تعالى عليه قوله : وأنذر عشيرتك الأقربين . فأتى صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ، ثم نادى : يا صباحاه . فاجتمع إليه الناس بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بني عبد المطلب ، يا بني فهر ، يا بني لؤي ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم ، صدقتموني ؟ قالوا : نعم ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد . فقال أبو لهب : تبا لك سائر هذا اليوم ! أما دعوتنا إلا لهذا ؟ وأنزل الله : تبت يدا أبي لهب وتب . رواه أحمد والبخاري ومسلم ، والترمذي والنسائي ، من طرق . هجمة شرسة من العشيرة والأقربين ، تلقي حممها ، وتنفخ شررها في وجه الدعوة ، وحاملها ، خير من وطأ الأرض ، وخير خلق الله أجمعين ، صلى الله عليه وسلم ، يأتيهم حاملا إليهم البشرى بتوحيد رب العالمين ، والنذارة من عذابه الأليم ، فيقال له تبا لك سائر هذا اليوم .، فيا عجبا من قوم يقابلون من يدعوهم إلى النجاة فيدعونه إلى الجحيم . أيها المسلم : في صحن الحرم ، وأنت تركع ركعتي الطواف ، تأمل معالم اللوحة الثانية ، وتذكر حبيبك صلى الله عليه وسلم ، وهو يناجي ربه في جنبات بيته ويصلي ، وأبو جهل وأصحاب له جلوس ، فقال بعضهم لبعض : أيكم يجيء بسلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد ، فانبعث أشقى القوم ، وهو عقبة بن أبي معيط ، فجاء به ، فنظر ، حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه قال عبدا الله بن مسعود ، راوي الحديث : وأنا أنظر ، لا أغني عنه شيئا ، لو كانت لي منعة . قال : فجعلوا يضحكون ، ويحيل بعضهم على بعض ، أي : يتمايل بعضهم على بعض مرحا وبطرا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد ، لا يرفع رأسه حتى جاءته فاطمة فطرحته عن ظهره ، فرفع رأسه ، ثم قال : اللهم عليك بقريش ، ثلاث مرات . فشق ذلك عليهم ، وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة ، ثم سمى : اللهم عليك بأبي جهل ، وعليك بعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة ، وأمية بن خلف ، وعقبة بن أبي معيط ، وعد السابع فلم نحفظه ، فوالذي نفسي بيده ، لقد رأيت الذين عد رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب ، قليب بدر . رواه البخاري . معاشر الملبين : هذان موقفان من مواقف الدعوة في جنبات بيت الله الحرام ، في صحنه وعلى ظهر الصفا ، تأملوا كيف كان عنت المعاندين ، وصلفهم ، وقوة استهزائهم ، ثم اقلب صفحات الزمن سنين عددا ، مليئة بالحزن ، والجهد ، والدعوة ، والكفاح المرير ، والغزوات ، وفقد الأحباب ، وبسالة الأصحاب ، وهجرة الأوطان ، ولا يغب عن ذهنك : ثاني اثنين إذ هما في الغار ، ثم من المدينة النبوية ، عد إلى نفس المكان ، إلى صحن المسجد الحرام ، ومحمد بن عبدالله ، نفسه صلى الله عليه وسلم ، لكنه ليس ضعيفا ، ولا وحيدا هذه المرة ، بل حوله عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار ، في يوم الفتح الأعظم ، حين أعز الله دينه ، ونصر رسوله ، ومنه بدأ تاريخ البلد الحرام إسلاميا ، أمنا ومنارة للهدى ، فاستبشر أهل السماء ، وضربت أطناب العزة على مناكب الجوزاء ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وأشرقت الأرض بيوم الفتح ضياء وابتهاجا ، وعلت راية الحق في كبد السماء سراجا وهاجا ، وهطل غيث الهداية وحيا يقطر في القلوب ثجاجا ، فارتوت أكباد العطاش إلى الهدى والنور ، وتبسمت شفاه المؤمنين بيوم البعث والنشور ، فأقبل ابن عبد المطلب ، بأبي هو وأمي ، صلى الله عليه وسلم ، والمهاجرون والأنصار بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، فدخل المسجد ، وأقبل على الحجر الأسود فاستلمه ، ثم طاف بالبيت العتيق ، وفي يده قوس ، وحول البيت ثلاثمئة صنم ، فجعل يطعنها بالقوس ويتلو : وقل جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا . ويتلو : وقل جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد . والأصنام تتساقط على وجوهها ، وكان يطوف على راحلته ، وبعد طوافه دخل الكعبة ، وصلى فيها ثم دار في البيت وكبر في نواحيه ، ثم فتح الباب ، وقريش كلها قد ملأت المسجد ينتظرون ماذا يصنع ، فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته ، فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ،،، وتكلم فيهم ، ثم قال : يا معشر قريش ، ما ترون أني فاعل بكم ؟ فقالوا : خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم . قال : فإني أقول مثل ما قال يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم . اذهبوا فأنتم الطلقاء . معاشر المسلمين : وأنتم تطوفون بالبيت تذكروا كم بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، ليصبح البيت كما أراده الله مثابة للناس وأمنا . وتأملوا كلمة التوحيد التي رفعها حبيبنا صلى الله عليه وسلم مدوية في أفاق الحرم توحد الله ، وتقر له أنه أنجز وعده ، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، وهي الشهادة التي يكررها كل حاج أو معتمر يطوف بالصفا والمروة ، لتعلن للتاريخ أن مقولة أبي لهب : تبا لك سائر هذا اليوم ، عادت إليه ، وانقلب تأثيرها عليه ، فعاد محمد وأصحابه بعد أن كانوا أذلة ، عادوا أعزة فاتحين ، مهللين مكبرين ، وللحي القيوم موحدين ، قد فتحوا البلاد ، وقلوب العباد ، وخضع للحق الحاضر والباد . فمشاعر مكة وفجاجها ذكريات تلك السيرة . ومناسك الحج وشعائره إقرار لمنهج تلك السيرة ، توحيد ، وتضحية ، وفداء ، وجهاد وصبر ، وبذل وذكر ، وتسامح ، وتكاتف ، وتعظيم لحرمات الله ، ولشعائر الله ، وإعلام بتقوى القلوب . وفي الفتح خاطب نبينا صلى الله عليه وسلم قريشا فقال لها : يا معشر قريش ، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم ، وآدم من تراب . ثم تلا : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير . ففي الحج يتبين هذا المنهج ، إذ تمنحي فيه ، فوارق الأجناس والأوطان ، وتنصهر الأمة على صعيد واحد ، تعلن شعار التوحيد تهليلا وتكبيرا ، بقلوب تحن إلى البيت كما تحن الحمائم إلى أوكارها ، وهي تتخيل طيف إبراهيم مودعا فلذة كبده وهو لم يزل رضيعا مع أمه ، بين جبال مكة السوداء ، ويرفع كفيه داعيا مناجيا : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ، ربنا ليقيموا الصلاة ، فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون . سبحان الله ، لو رأى إبراهيم ، هذه الجموع تتزاحم لتصل إلى البيت ، من كل فج عميق ، وهم يحجزون عنه حتى لا يقتتلوا ، ملايين ينفقون من أموالهم الذي جمعوه سنين طوالا لتراه ، ولتستلم الحجر وتطوف به ! وتتخذ من مقام إبراهيم مصلى ! لو رأى إبراهيم البيت وهو معمور في كل لحظة من لحظات اليوم ، معمور بالطائفين والقائمين والعاكفين والركع السجود . لو رأى إبراهيم البيت ومصابيح الأنوار تضيء ليله ، حتى كأنه نهار والناس فيه لا تنقطع منه رجل داخل إليه أو خارج منه . لو رأى إبراهيم البيت بمنائره المتعددة ، وصوت التوحيد يجلجل فيها خمس مرات ، منقولا إلى أصقاع الدنيا كلها ،،، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله الله . وأما نبي الله ، بأبي هو وأمي ، شقي ، وتعب وجاهد ، لم تنم له عين قريرة حتى ودعنا ونحن في صلاتنا ، واطمأن علينا ، وأوصانا ، وترك فينا أمانا من الضلال ، كتاب الله وسنته ، فغدت أمته تمرض ، لكنها لا تموت ، وله أتباع بذلوا الغالي والنفيس لإيصال رسالته للعالمين . وصدقت كلماته ووعده ، بألا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا ودخله دينه ، بعز عزيز وذل ذليل . ها هو الكتاب الذي أنزل إليه تطبع منه ملايين النسخ ، بمختلف الأحجام ، والقراءات ، ويحفظه أضعاف كثيرة لا يعلمهم إلا الله ، جيلا بعد جيل . وآياته تتلى على الآفاق ، فضاء وأرضا ، وتردده الألسن وتسمعه الآذان في كل وقت وحين . وسنته تشرح وتحفظ وتنشر ، وتتبع ، وينافح عنها من سار على دربه ، وترسم خطاه ، في كل مكان ، لا يخافون لومة لائم ، ولا تعيقهم سياط ظالم ، ولا سجن غاشم ، ولا قنابل الأعاجم . والكعبة المشرفة التي طهرها من الأصنام ، بيده الشريفة تعيش اليوم مجللة مكرمة معظمة ، لا تصلها يد مشرك ، ولا تنال منها يد عابث ، تخدم في الليل والنهار ، وتكسى ، وتطهر ، وتدهن بأجود أنواع الطيب ، قد أوقفت لخدمتها الحصون والقلاع ، والناس حولها يطوفون ، ومن كل جهة لها يصلون ، يركعون ويسجدون ، بأمان ، ورغد عيش ، نجبى إليهم ثمرات كل شيء ، يأتيهم رزقهم رغدا من كل مكان ، فلو قدر أنه كشف الستار كما كشفه في آخر يوم له في الحياة ، حين اطلع على أصحابه وهم يصلون فتبسم تبسم الراضي ، لو رأى أمته اليوم في جنبات بيت الله الحرام يصفون بمئات الألوف ، وفي مسجده مئات الصفوف ، لقد كان يرجو أن يكون أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة . صلوات الله وسلامه عليه . عباد الله : هذه نفحات من ذكريات البيت العتيق ، أقولها محفزا نفسي ، وإخواني لتعظيم حرماته ، وتقديس جنباته ، وتطهيره من أعظم منجس له ، وهو الشرك بالله ، فإن البيت إنما رفعت قواعده للتوحيد ، وطمس معالم الشرك والوثنية . فمن أكبر المنغصات للقلب الحنيف أن يسمع من يشرك بالله في جنبات بيت الله ، وإنما هو منارة للتوحيد . في الطواف لنا ذكرى ، وفي السعي لنا ذكريات ، ينبغي أن نحييها في نفوسنا لنقيم الشعائر بقلوب حاضرة ، واثقة بنصر الله مهما تكالبت الأعداء ، ومهما أظلمت السماء ، فظلمتها عما قريب ستنجلي ، وسيطلع الفجر مشرقا كعادته مؤذنا بيوم جديد ، أشبه ما يكون بيوم الفتح ، فتح القلوب لتفقه الحق ، وتعقله ، وفتح الآذان لتسمعه ، والأعين لتبصره ، وقيادة الجوارح لتتبعه . فانظروا إلى اللوحة الثالثة ، وقد حانت الصلاة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا رضي الله عنه أن يصعد فيؤذن على الكعبة ، وأبو سفيان بن حرب ، وعتاب بن أسيد ، والحارث ابن هشام جلوس بفناء الكعبة ، فقال عتاب : لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا ، فيسمع منه ما يغيظه ، وقال الحارث : أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته ، فقال أبو سفيان : أما والله لا أقول شيئا ، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء ، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : قد علمت الذي قلتم ، ثم ذكره لهم . فقال الحارث وعتاب : نشهد أنك رسول الله ، والله ما اطلع على هذا أحد معنا فنقول : أخبرك . فيا من شهدتم أنه لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ، قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصبهم عذاب أليم ، ألا إن لله ما في السموات والأرض ، قد يعلم ما أنتم عليه ، ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ... الخطبة الثانية : الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه . أحمده سبحانه ، حمدا يوصل الحامد له به إلى رضوانه . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، تعظيما لشأنه ، ومنجية لي من عقوبته ونيرانه . وموجبة لي بحبوحة جنانه . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، دعى من أراد النجاة أن يعمل لها ، بقلبه ، وجوارحه ولسانه ، صلى الله عليه ، وعلى آله وأصحابه ، وإخوانه ، وسلم تسليما . أما بعد ، فاتقوا الله عباد الله ، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة ، ومن شذ شذ في النار . ثم اعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم ، وسيتخطى غيركم إليكم ، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ، فخذوا حذركم ، وقدموا عذركم ، واستعدوا للعرض الأكبر على الله ، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية . أيها المسلمون : قوافل المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها قد توجهت إلى مكة ، آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . بالدعاء لهم عجيج ، وبالبكاء لهم نشيج ، يلبون فتهتز المشاعر ، ويدعون فتثار المشاعر ، لربهم يذكرون ، وبحمده يمجدون ، ولفضله ونعمته يشكرون ، في مشهد مهيب ، ومنظر بهيج . ولو لم يرد في فضل الحج إلا قوله صلى الله عليه وسلم : من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه . أخرجاه من حديث أبي هريرة ، لو لم يكن إلا هذا الحديث لكفى به مشوقا للبيت الحرام ، ومعينا على السباق مع الأيام ، للتعرض للنفحات وتنزل الرحمات ، والعتق من النيران ، واستمع يا رعاك الله إلى قول نبيك صلى الله عليه وسلم : ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدا من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة ، فيقول : ما أراد هؤلاء ؟ خرجه مسلم في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها . ولهذا فما رؤي الشيطان أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة ، لما يرى من تنزل الرحمة ، وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام ، ومغفرة الكبير من الآثام ، إلا ما رؤي يوم بدر . قال ابن المبارك : جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة ، وهو جاث على ركبتيه ، وعيناه تهملان ، فالتفت إلي ، فقلت له : من أسوأ هذا الجمع حالا ؟ قال : الذي يظن أن الله لا يغفر لهم . ونظر الفضيل ابن عياض إلى نشيج الناس وبكائهم عشية عرفه ، فقال : أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقا ، يعني سدس الدرهم ، أكان يردهم ؟ قالوا : لا ، قال : والله ، للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق . وإني لأدعو الله أسأل عفوه وأعلم أن الله يعفو ويغفر لئن أعظم الناس الذنوب فإنها وإن عظمت في رحمة الله تصغر فمن رزقه الله الوقوف بعرفة فليري الله منه خيرا ، بدمع غزير وقلب منيب ، ومن حرم الوقوف مع الواقفين ، فلا يحرمن الصيام مع الصائمين ،،، وليقم لله بحقه الذي عرفه ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب