النذر بالانتحار مقال للدكتور سعد الدين هلالي جريدة الجمهورية الأربعاء 9 فبراير 2011م
قرآن وسنة
النذر بالانتحار
د. سعد الدين هلالي
العجب أن الإنسان يستهوي خلط الأمور المختلفة. ثم يجد نفسه قد وقع في إشكال يحتاج إلي حل. ومن هذا الخلط "النذر بالانتحار".
المعروف أن النذر من صيغ العبادات التي يلتزم فيها المسلم بعمل صالح غير لازم عليه بأصل الشرع تقرباً إلي الله تعالي... وهذا النذر واجب الوفاء في الجملة.. لقوله تعالي: "وليوفوا نذورهم" "الحج: 29". وأخرج الشيخان عن عمر بن الخطاب أنه قال للنبي: يا رسول الله. إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوماً في المسجد الحرام. فكيف تري؟!.. فقال "صلي الله عليه وسلم": "أوف بنذرك".
أما الانتحار فهو قتل الإنسان لنفسه اختياراً. وهو محرم بالإجماع. لقوله تعالي: "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً" "النساء: 29". وقوله تعالي: "ولا تلقوا بأيديكم إلي التهلكة" "البقرة: 195".. وأخرج الإمام أحمد عن ثابت بن الضحاك أن النبي "صلي الله عليه وسلم" قال: "مَن قتل نفسه بشيء عذبه الله به في نار جهنم".
ووجه العجب فيمن نذر أن ينتحر هو الخلط بين طاعة الله بالنذر وبين معصية الله بالانتحار!!.. لقد أجمع الفقهاء علي عدم جواز الوفاء بنذر المعصية. لأن المعصية لا تحل أصالة. فلا تحل بالنذر من باب أولي. وقد أخرج البخاري عن عائشة أن النبي "صلي الله عليه وسلم" قال: "مَن نذر أن يطيع الله فليطعه. ومَن نذر أن يعصي الله فلا يعصه".
وهل يجب علي مَن نذر أن ينتحر كفارة؟!.. هناك ثلاثة مذاهب للفقهاء:
المذهب الأول: يري أنه لا يجب علي من نَذر الانتحار أو أي معصية أخري كفارة. بل حسبه أن يمتنع عن المعصية. وهو مذهب المالكية والشافعية في الأظهر. ورواية عند الحنابلة. وحجتهم: ما أخرجه مسلم عن عمران بن حصين أن النبي "صلي الله عليه وسلم" قال: "لا نذر في معصية الله".
المذهب الثاني: يري أنه يجب علي من نذر بالانتحار أو أي معصية أخري أن يخرج كفارة يمين. وهي إطعام عشرة مساكين. أو كسوتهم. فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وهذا مذهب الحنفية.. وقول عند الشافعية والمشهور عند الحنابلة.. وحجتهم: ما أخرجه الترمذي بسند فيه مقال. أن النبي "صلي الله عليه وسلم" قال: "لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين".
المذهب الثالث: يري أنه يجب علي من نذر الانتحار كفارة مائة ناقة يطعمها الفقراء علي ثلاث سنوات. وهو قول ابن عباس وابن عمر وبعض السلف.. وحجتهم: ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس أن رجلاً قال له: إني نذرت أن أنحر نفسي. فقال له: ما أصنع بك؟.. اذهب فانحر نفسك. وكان ابن عباس منشغلاً بحل مشكلة أم مع ولدها. فلما فرغ قال عليّ بالرجل. فذهبوا فوجدوه قد برك علي ركبتيه يريد أن ينحر نفسه. فجاءوا بها إلي ابن عباس. فقال له: ويحك لقد أردت أن تحل ثلاث خصال.. أي كان عليك أن تتنبه لتلك الخصال.. وهي: أن تحل بلداً حراماً. وهي مكة.. وأن تقطع رحماً حراماً. وهي نفسك أقرب الأرحام إليك. وأن تسفك دماً حراماً.. ثم قال للرجل: أتجد مائة من الإبل؟.. قال نعم.. قال: فاذهب فانحر في كل عام ثلثاً حتي لا يفسد اللحم.. ومثل هذا الحديث أخرج الطبراني في الكبير عن ابن عباس أن النبي "صلي الله عليه وسلم" قال للذي نذر أن ينحر نفسه: "هل لك مال؟.. قال: نعم.. قال: اهد مائة ناقة. واجعلها في ثلاث سنين. فإنك لا تجد من يأخذها منك معاً".
إن الحقيقة التي لا تغيب عن العقلاء هي أن النذر لا يمكن أن يكون مبرراً للانتحار أو أي معصية لله؟.. لأن طبيعة النذر لا تتآلف مع المعصية. فهو من الخلط والتخليط في الأمور.