أولاً : نبذة عن تاريخ الأديان في مصر
مصر وحضارتها في الشرائع الثلاث
مقدمـه :
هذه دراسة مختصرة عن تاريخ " مصر الديني " من العصر الفرعوني إلي الفتح الإسلام لها وانتشاره في أرجاء المعمورة، ولا شك أن هذه فترة طويلة من الزمن ، ولذا آثرت أن يكون العرض موجزا على مر العصور واختلاف الشرائع ، وهذا يعني الإلمام العام بدور مصر في الشرائع على مر العصور مما يستدعي الإلمام بالعناصر العامة في كل عصر مع كل نبي في مصر ، إلا أني آثرت الاهتمام بالشرائع الثلاث ، فمصر بلد شعبها متدين ويقبل الامتزاج ولا يحب التنازع فهو شعب يتأقلم مع الاتجاهات ، فنراه يميل للانتماءات العديدة ، نجده يتجه تارة نحو القارة الإفريقية في نشأته الحضارية ، وتارة إلي حوض البحر الأبيض المتوسط بحيث موقعه البحري ، وآخر إلي آسيا(1) ، وهذا الامتزاج يؤثر في طبيعة الشعب المصري إلا أنها كانت تنزل في نفوس شعبها آثارا مؤكدة أن مصر هي التي تجعل من عظمائها عظماء ، حتى قيل ] إن الذين أتوا من خارج مصر لم يصنعوا تاريخها بل مصر هي التي صنعت تاريخهم ، وصنعتهم هم أيضاً(2)[ ، فقد أحكمت داخل حدودها أزهي صور الحضارة البشرية ، مما يتعذر على الباحثين أن يمسكوا جميع أطرافه ، فحسبها في العصور القديمة أنها مهد أعظم حضارة شهدها العالم أجمع في تلك العصور ، وما زالت بعض أسرارها مغلقة لم يهتد العلم الحديث إلي تفسير لها ، أما في العصور الوسطي(3) ، فكانت مصر ملتقى التيارات الروحية والسياسية والاقتصادية والفكرية في العالم المعروف آنذاك ، فما من قوة سياسية لها وزنها في إفريقيا أو آسيا أو أوروبا إلا وقدرت مصر في تلك العصور ، فكانت قبلة الأصدقاء والأعداء جميعاً ، الأصدقاء ينشدون تأييدها ومساعدتها ، والأعداء يخشون بطشها وقوتها ، وفى العصر الحديث المصاحب لتغير ميزان القوي بين أركان العالم فإن مصر رغم ما لحقها من خسائر نتيجة لتلك القوي مازالت تنهض بدور فعال له وزنه في مجري التاريخ الحديث ، ومصر سماها المثقفون القدماء " كيمة " بمعنى " الأرض السوداء " أو السمراء إشارة إلي سمرة تربتها الطينية وخصوبتها ، وكثيرا ما عبروا عنها باسم التثنية " تاوي " أي الأرضيين ارض الدلتا وأرض الصعيد في حال الترابط والشمول ، وارتبط الاسم الشائع " مصر " في اللغة المصرية وبعض اللغات السامية القديمة بمترادفات تدل على معني الحد والحاجز والمكان القديم ، فضلا عن البلد المتمدين . أما " إيجيبت " فهو اسم شائع عنها في اللغات الأجنبية منذ عهود الإغريق القدامى وهو محرف عن " آجبه " المصري القديم بمعني الفيضان(4) ، والمصري القديم متدين بطبعه ، حتى قال عنهم " هيرودوت " : هم قوم يخافون الله 0
وتؤكد الدراسات الأثرية في ورقة " بريس " البردية القائل فيها(5) : ¬
أ ـ اسلك طريق الاستقامة لئلا ينزل عليك غضب الله 0
ب ـ احذر أن تكون عنيداً في الخصام فتستوجب عقاب الله(6) 0
وتأتي القواعد النصية لتنصيب الحكام والوزراء بالتوجيهات الأخلاقية والأدبية(7) 0
فمنذ بزوغ شمس مصر وهي تبث نورها في أرجاء المعمورة هداية وإيماناً ، فهي بحق أرض استقر فيها الدين ونشر بأيدي العلماء الخارجين منها في بقاع الأرض 0
وتاريخ مصر القديمة ينحصر في ثلاثة عصور هما :
1- العصر الصاوي : وتنحصر فيه الأسرتان " الأولي " و " الثانية " وهو يبدأ بالملك " مينا " موحد القطرين رأس الفراعنة الذي جمع تحت سلطانه الوجهين البحري والقبلي 0
2- العصر المنفي : يبدأ من " الأسرة الثالثة " وينتهى بالأسرة الثامنة "، واشهر ملوكه زوسر " Zoser " صاحب الهرم المدرج من الأسرة الثالثة ، ومن أشهر ملوك الأسرة الرابعة الملك خوفو ثاني ملوك الأسرة 2650 ق.م(
، ثم ابنه خفرع أو شقيقه كما يقول بعض العلماء سنة 2620 ق.م(9) ، ثم منكاورع ـ منقرع ـ ابن خوفو أو ابن خفرع وهو من آخر ملوك الأسرة الرابعة حوالي 2600 ق.م(10) 0
3- العصر الهراقليو بولوتيني : وهو يشتمل على الدولتين التاسعة والعاشرة 0
أما مصر في الدولة الوسطي " 3200 " حتى " 1600 " ق.م. :
فهى مكونة من الأسرة الحادية عشر حتى الأسرة السابعة عشر . أما مصر في الدولة الحديثة فمن الأسرة الثانية عشر " 1600 ـ 3400 ق.م " 0
ومن خلال تاريخ أسر مصر القديمة ينشق نور الوحي الإلهي في أولي أكبر شرائعه وهى الشريعة اليهودية ، مبتدءاً برجوع موسي ( ) من أرض مدين التي هرب إليها خوفا من بطش المصري القديم . عائدا إلي ملاذه الأول الذي ترعرع فيه مخاطبا شعب مصر وفرعونها الذي تشير بعض الدراسات التاريخية بأنه رمسيس الثاني(11) 0
عندما ولد موسى رأي فرعون مصر في المنام رؤيا نهايته ، فأخذ يقتل الأطفال وحكمت السماء بتربية موسى في قصر فرعون ، وبداية الدعوة كانت في صحراء سيناء عندما عاد إلي مصر بعد رؤيا شهدها موسى ( ) بالرجوع إليها 0 وتبدأ مصر مع موسى ( ) حقبة زمنية إيمانية جديدة.
مصر اليهودية(12) :
ويمكث موسى في مصر مدة تطول أو تقصر إلا أن الديانة اليهودية أخذت تتوسع مما أزعج فرعون مصر(13) ، وأراد موسى الخروج لرؤيا شهدها(14) ، أو بأمر من فرعون(15) ، ثم يلحقه فرعون وتتم نهايته بالغرق وإخراج بدنه ليكون آية عظيمة لكل متكبر (16) ، ويدخل موسى ( ) أرض سيناء ، أرض البركة ، أرض النفحة ، وتنزل عليهم بركات السماء إلا أن الوعد الإلهي أمر موسى بخروج بنى إسرائيل من مصر ، وأمره أن يلقي ربه أياما معدودة ، ثلاثين ثم زيدت بعدها عشرا " وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ " (17) . وتظهر الشخصية الإيمانية ، المتمثلة في شخصية هارون والمؤمنون ، وتطفو سحائب الظلمة والعدوان من الكافرين فيظهر" السامري " 0
فعندما غاب موسى عن قومه أخذت الحضارة المصرية القديمة تبث نارها في جسد الكيان اليهودي الذي تربي في مصر على الحس حاكيا لنا سفر الخروج " لما رأي الشعب أن موسى ابطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له : " اصنع لنا إلهة تسير أمامنا لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من مصر لا نعلم ماذا أصابه " (18)، ومن المحقق أن بني إسرائيل باتخاذهم العجل بعد موسى إنما كانوا متشبهين بما اعتادوا عليه في مصر، مرتدين عن شريعة موسى ، وأنهم اتخذوا من حليهم الذهبية فتنه " تحتحور " الذهبية(19) 0
وما كان لها من منزلة في النفوس ، وذلك فضلا عما تأثروا به من حب المصريين للذهب وصنع تماثيلهم الثمينة منه(20)0
وليس هذا فقط بل إن البعض من العلماء يؤكد أن نفسية اليهود في مصر كانت تقبل الذل والهوان ويكشف الرب في الكتاب المقدس أن سر عبوديتهم في مصر ليس قساوة قلب فرعون وإنما انحراف قلب الشعب فيقول " قلت لهم اطرحوا كل إنسان منكم أرجاس عينيه ولا تتنجسوا بأصنام مصر أنا الرب إلهكم فتمردوا عليه "(21) ، في الوقت الذي كان الله يهيئ لهم الأرض التي تفيض عسلا ولبنا فرفضوا طرح أرجاس عيونهم والتخلي عن الأصنام ، ومع هذا لم يسخط عليهم في ارض مصر بل أخرجهم بقوة لأجل اسمه القدوس(22) ، حتى يتمجد فيهم وسط الأمم(23) 0
ولم تكن هذه صورة منفردة من الحضارة المصرية ، بل إن موسى ( ) عمل حية نحاسا ظل بنو إسرائيل يعبدونها حتى ملك عليهم " حزقيا " بن آحاز فأزالها (24) ، فهذه الحية من مصر الفرعونية المتمثلة في السيدة الطيبة : الكوبرا " ( رع ـ رننوتت ) سيدة مخازن الحبوب تأخذ أولي ثمار الحقل من الفلاح ، لأنها أشرفت على نمو النبات(25) ، فالحية الموسوية المعبودة لها أصل فرعوني قديم ، فقد استمد بنى إسرائيل بعض معتقداتهم من الحضارات كما يقول المؤرخ العالمي / ارنولد توبيني ، عن إله اليهود " كان يهوه "(26) ، إله قبيلة بدوية وتطورت هذه الديانة حتى بلغت مرحلة متقدمة على يد الأنبياء في القرن الثامن قبل الميلاد(27) ، بل إن الشريعة اليهودية في معتقد اليهود والتى أصلها الألواح التسع أو السبع عند نزول موسى تأخذ جانبا من الغموض كغموض المصري القديم، فمصر الفرعونية كانت تجعل للكاهن السلطة العليا ، فمهمة الكاهن ـ خادم الإله(28)، المحافظة على رمزية الإله على أتم وجه والعناية به والمحافظة عليه من الأضرار الخارجية التي قد تنقص من صلاحيته للعمل على الأرض ، وكذلك جعل بني إسرائيل طائفة يحافظون على الألواح الخاصة والعامة فالألواح الموسوية التسع سبعة عامة واثنان خاصة(29) ، فمن هذه الألواح : ـ
اللوح الأول(30) : " النور " وفيه وصف بالواحدية والفردية الإلهية 0
واللوح الثاني : " الهدى " وفيه علم الكشف عن أحوال الملل وأخبار من كان قبلهم وبعدهم 0
واللوح الثالث : " الحكمة " وفيه كيفية السلوك العلمي بطريق التجلي والذوق في الحظائر القديسية الإلهية من خلع النعلين وتراقي الطور ومكالمة الشجرة ورؤيا النار في الليل المظلم فإنها كلها من أسرار الإلهيات 0
واللوح الرابع : " القوى " فيه علم التنزلات الحكيمة ،وفى القوي البشرية ،وهذا علم الأذواق من حصله من بني إسرائيل كان حبرا ،وهو على مرتبة ورثة موسى 0
واللوح الخامس : " الحكم " فيه علم الأوامر والنواهي ، وهما التي فرضها الله على بني إسرائيل وحرمها 0
واللوح السادس : " العبودية " وفيه معرفة الأحكام اللازمة للخلق من الذل والافتقار والخوف والخضوع 0
واللوح السابع : " طريق السعادة " يذكر فيه الطريق إلي الله ـ تعالي ـ ثم يبين طرق السعادة من الشقاوة 0
ونجد في هذا اللوح للشخصية اليهودية التي ابتدعت في الدين ما ليس منه فنجد الجيليي يقول : "ومن هذا اللوح ابتدع قوم موسى ما ابتدعوه في دينهم رغبة ورهبانية ابتدعوها واستخرجوا ذلك من أفكارهم وعقولهم ، لا من كلام موسى بل من كلام الله ـ تعالي ـ فما رعوها حق رعايتها ، فلو أنهم استخرجوا ذلك بطريق الأخبار الإلهية والكشف الإلهي لكان الله يقدر لهم ذلك "(31) 0
أما اللوحين الثامن والتاسع : فهما " الربوبية " و " القدرة " فقد أنزل الله على موسى تسع ألواح وأمره أن يبلغ سبعة ويترك لوحين ، لأن العقول لا تكاد تقبل ما في ذلك اللوحين ، فلو أبرزها موسى لا ننقض ـ كما يقول الجيليي ـ عليه ما يطلبه ، وكان لا يؤمن به رجل واحد ، فهما مخصوصان لموسى ( ) دون غيره من أهل ذلك الزمان(32) 0
وهذه الألواح التسع مصدر الدين اليهودي . وحمل لواء تعليمه طائفة من اليهود يتناقلون العلم بينهم ، وتبدأ المشافهات استمدادا لهذين اللوحين ، فتظهر الحضارة المصرية في الفكر اليهودي البدائي بوجود سر لا يعلمه إلا الكاهن ، وحقائق تشريعية مستمدة من الإله إلي الكاهن ، فينطق بلسان الإله 0
وينطلق الشعب اليهودي تاركا مصر ، فاتحا فلسطين ، وتبقي مصر فاتحة أبوابها لكل شرائع السماء منتظرة هبوب رياح الخير في رحلة السيد المسيح راجية له وصولا آمنا وسلامة من كل غدر0
مصر المسيحية(33):
دخل مسيحنا إلي مصرنا هاربا من وجه " هيرودس " ، الذي يسكب سمة الصليب على شعبه مصر ، فتبقي كنيسته تتمتع بشركة آلامه ، وتشاركه صلبه عبر العصور ، فتحمل مع الصلب بهجة القيامة ومجدها(34) ، فمصر في المسيحية لها مكانة عظيمة متمثلة في أدوارها عبر الزمان مع أنبياء الله، فهى كجنة الرب ، لأنه في الكتاب يقول " كجنة الرب كأرض مصر " (35) ، وهروب الطفل " يسوع " المسيح إلي مصر مع القديسة "مريم " والدته والقديس " يوسف " لم يكن بالأمر الثانوي في أحداث الخلاص فلقد رآه " إشعياء النبى " ، قبل حدوثه بأكثر من سبعة قرون وسجل لنا هذا الحديث في إصحاحه قائلا " هو ذا الرب راكب على سحابه سريعة وقادم إلي مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها "(36) .
وكان يمكن للسيد المسيح أن يلتجئ إلي مدينة في اليهودية أو الخليل ، لكنه أراد تقديس أرض مصر رائدة العالم الأمي ، ليقم في وسطها لتصبح مركز إشعاع إيماني حتى ، فقد تحولت من عبادة الأوثان وعجل " أبيس " والقطط والتماسيح والضفادع إلي أعظم مركز للفكر المسيحي والعبادة الروحية والحياة الإنجيلية ، ففى فترة وجيزة تلألأ نجم كنيسة مصر بمدينة الأسكندرية معلمة اللاهوت ، وتغير الكتاب المقدس للعالم المسيحي الأول ، وقادت حركة الدفاع عن الإيمان المستقيم على مستوى مسكوفي ، ومن مصر انطلقت حركة الرهبنة المسيحية بكل صورها تسحب قلب الكنيسة إلي البرية تمارس الحياة الداخلية الملائكية ، في نفس الوقت الذي انفتحت فيه أبواب البلاط الإمبراطوري لرجال الدين ، وكان الخطر يلاحق الكنيسة ، حيث يختلط العمل الروحي بالسلطة الزمنية والسياسية(37) 0
وأقبل الشعب المصري على الديانة المسيحية إقبالا يتفق مع مقولة " هيرودوت " عنهم بأنهم قوم يخافون الله ولم يبالوا بالاضطهاد والعنف اللذان تعرضوا لهما من جانب الأباطرة الوثنيين ، وهو الاضطهاد الذي بلغ ذروته في عصر الإمبراطور" دقلديانوس " ـ 284 ـ 305 م (38) . فقد دخلت المسيحية في منتصف القرن الأول الميلادي ، ويرجح العلماء في عهد الإمبراطور " نيرون " ، وكان حامل لواء المسيحية في مصر المبشر القديس " مرقس " ، ويفسر العلماء الإقبال الشديد على المسيحية بالدوافع القومية وكراهيتهم للمستعمر الروماني ، والرغبة في اعتناق ما يخالفه ويرفض ظلمه وجوره، فقد كان المصريون يفهمون المسيحية فهما سطحيا لا يستوعبون ما في معتقداتها من جدل وغموض(39).
ويؤكد الباحثون أن المسيحية أخذت في الانتشار تدريجيا في أنحاء مصر منذ القرن الثاني الميلادي ، فالقي الناس فيها زادا روحيا يستمدون منه القوة والقدرة على مقاومة ظلم أباطرة الرومان ، فلم تلبث المسيحية حتى لقيت قبولا في عهد " قسطنطين الأول " ـ 223 ـ 337م ، مع غيرها من البيانات الأخرى ، ثم صارت الدين الرسمي الوحيد لها أيام الإمبراطور "تيودوسيوس الأول " ( 379 ـ 395 م ) ، ثم صدر أمران ملكيان بتحريم العبادات الوثنية سنتي 392 م ، 394م، وهذان الأمران قد أراحا المصريين وغيرهم من معتنقي المسيحية من الاضطهاد وتمتعوا بالحرية الدينية(40) ، فمنذ دخول المسيحية إلي مصر والأسكندرية خاصة وإلي وادي النيل عامة على يد البشير " مرقس " نفسه واستشهاده في الكنيسة(41) ، والمسيحية في اضطهاد حتى صدر مرسوم " ميلانو " سنة 313م الذي سمح بحرية الأديان(42) ، مما اضطر البعض إلي استخدام الرهبنة نوعا لمقاومة من الرومان والبيزنطيين في صورة سلبية ،وقد ابتدعها المصريون ولم تكن في أصل الديانة المسيحية ، واقدم راهب يذكره التاريخ هو " بولس الطيبي " من أهل طيبة ـ الأقصر ـ وقد فر مع غيره من الاضطهاد، ولاذ بالصحراء ، واعتبرهم كثير من المصريين أبطالا مجاهدين واعجبوا بزهدهم وجلدهم، والتف حولهم اتباع ومربيون (43) 0
ومبدع الرهبانية المسيحية مصري من قمن اسمه " انطونيوس " الشهيد ( كوكب البرية ) ولد حوالي سنة 215م(44) ، ومن مصر انتقلت الرهبانية إلي بلدان الشرق الأوسط وإلي سوريا وفلسطين وآسيا الصغرى وبين النهرين ، حيث أسست المناسك والأديرة فوق قمم الجبال وفى تيه الصحراء على النماذج التي أنشأت في مصر(45) ، وأضحت مصر هي المثل الذي يحتذي به في المسيحية ويعيش علمائها على نمط مصر ، وعلى غرار علمائها تربي المسيحيون في أرجاء المعمورة تلامذة على يده علماء مسيحية مصر نورا وهداية ، فمن أبرز علماء مصر ( إثناغوراس ) الفيلسوف الذي كتب كتابا في عام 176 ـ 177م ، يدافع فيه عن المسيحيين ضد الاضطهاد الواقع عليهم في حكم الإمبراطور مرقس أوريليوس أنطونيوس وانبه كومودوس ، كما كتب كتابا آخر عن قيامة الأجساد وهو أول محاولة من نوعها لكتاب مسيحي يثبت فيه هذه العقيدة بأدلة من العقل بعيدة عن الوحي ونصوص الكتاب المقدس ويرد فيه على الاعتراضات العلمية التي يثيرها العلماء في زمانه ضد إمكانية قيام الأجساد(46) 0
وفي مصر أنشئت أول مدرسة علمية مسيحية في العالم هي مدرسة الإسكندرية ، فهي تؤمن بالمعرفة والدراسة والبحث ، لا تقاوم العلم والفلسفة بل تقدس كل معرفة فقد ظهر فيها فلاسفة مؤمنون أمثال القديس بنتينوس Pantecnas الذي فسر جميع أسفار الكتاب المقدس وهو أول من قاد حركة الترجمة للكتاب المقدس إلي لغة الضبط وكان ذلك قبل سنة 190 م وقد قام بأول رحلة دينية إلي بلاد الهند مبشرا أهلها بالسيد المسيح(47) ، والكمينفس الإسكندري والعلامة إثيناغوراس عميد مدرسة الأسكندرية والعلامة أوريجينوس في القرن الثاني أمير شراح الكتاب المقدس(48) 0
فهم يسيرون على درب الحواريين أصحاب السيد المسيح ، وغيرهم كالرسول " توما " الذي ذهب إلي جزر الهند الشرقية ، وأندورواس الذي وصل إلي آسيا الصغري ومنهم من شغل نفسه في البلاد الأوروبية فأرسل صحابته إلي إفريقية الشمالية وعمت الدعوى مصر وبلاد العرب والعراق فضلا عن الدعوة في فلسطين(49) 0
ولم تكن مصر قاصرة على العلم والحكمة بل رائدة في بدء إنطلاق الحركات الرهبانية بكل أنواعها كالتوحد على يد الأنبا أنطونيوس والشركة على يد القديس باخوميوس ونظام الجماعات على يد القديس متاريوس الكبير والأنبا آمون(50) 0
بل أدخلت المسيحية في بلاد النوبة تنفيذاً لسياسة الكنيسة وجاهد أحبارها جهادا طويلا حتى نشروا المسيحية في ممالك السودان الثلاث في العصور الوسطي وهى بحسب ترتيبها من الشمال إلي الجنوب ـ النوبة ثم مفرة ثم علوه 0
وقد كتب الرحالة المصري كوسماس المعروف بالبحار الهندي بين سنتي ( 537 ، 547 م ) يقول : إن الكنائس المسيحية المنتشرة بين النوبيين وكذلك الأساقفة والرهبان والشهداء بفضل المصريين الذين أدخلوا في السودان ونشروا المسيحية(51) 0
فمصر تعد في الكيان المسيحي حياة الإنسان الإيماني متمثلة في أطواره الإيمانية ، فهو ينتقل من مرحلة إلي أخري ، كذلك مصر السماوية ، فدخول بني إسرائيل في مصر وعد بالجنة ، ومكوث آدم عليه السلام فيها قبل الوقوع في الخطيئة وقيام فرعون مصر المستبد يمثل الإنسان العنيف المستعبد لإبليس وجنوده(52) 0
وتستمر المسيحية في مصر منتظره بشارة السيد المسيح القادمة من جبال فاران ، شاهده " الفار قليط " ، منتظرة وصول رسول جديد خاتم المرسلين ووصول رسالة السماء الخاتمة بالإسلام على يد رسولها محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام 0
مصر الإسلامية :
دخل الإسلام مصر في عام 19ﻫ على يد القائد المحنك عمرو بن العاص الذي كان على قدر كبير من الدراية والمعرفة بمصر وأحوالها ـ فقد كان يزورها ويتاجر فيها والواقع أن العرب كانوا يختلفون بتجارتهم إلي مصر عن طريق رحلة الصيف التي كانت تخرج من مكة إلي فلسطين وكان بعض العرب يواصل مسيرته إلي مصر للقيام بنشاطات تجارية ، وكذلك كان تجار العرب يلتقون بتجار مصر وغيرهم ، حيث اعتاد كثير من المسيحيين الذهاب إلي هناك للحج وزيارة الأماكن المقدسة، ومن بين الذين قدموا على مصر في الجاهلية عثمان بن عفان والمغيرة بن شعبه(53) 0
وقد عرف عن مصر تصديرها الثياب إلي شبه الجزيرة العربية ، فقد أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء(54) ، أن النبي ( ) كسا زيد بن ثابت يوم الخندق قبطية ، وذكر ابن كثير في البداية والنهاية(55) ، خرج عليه مرتديا قبطية وذلك فيه دليل على وصول تجارة مصر إلي العرب(56) 0
كما كان عمرو يشهد أعياد المصريين ، وكان من تقاليد المصريين أنهم في أعيادهم يلقون كرة وكانوا يعتقدون بأن من تسقط عليه الكرة سوف يصبح أميرا على بلدهم ، ففوجئ الجميع كما فوجئ عمرو بن العاص بأن الكرة سقطت في كمه (57) 0
والعجيب بأن الله تعالي قد قيض على يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بأمر منه لعمرو بن العاص أن يفتح مصر، وقد فتحت على يده ، وتم طرد الروم منها بعد فتح الأسكندرية عام 25 ﻫ 0
ولم يكن من العسير على من يؤمن بالمسيحية الحقيقية أن يتقبل دعوة الإسلام، كما فعل النجاشي ملك الحبشة 0
حيث رأي المصريون في الفتح الإسلامي خلاصا من ظلم وبطش الروم، الذي تنبأ به كبيرهم البطريرق بنيامين قبل مزاره إلي الصحراء(58) ، فلم تكن هناك مواجهة بين المسلمين وأهل مصر ، بل رحبوا بانتصار المسلمين ، ويذكر المقريزي أن سبعين ألفا من رهبان الأديرة خرجوا من وادى حبيب ( وادي النطرون ) للقاء عمرو بن العاص ، وكان كل منهم يحمل في يده عصا فلما دخلوا في طاعته أعطاهم كتاب الأمان(59) ، حيث كان في هذه البقعة مائة دير للنصارى(60) ، وقد يكون عدد الرهبان الذي ذكره المقريزي مبالغا فيه ولكن ذلك لا يفرغ مضمونه من الحرية الدينية التي وفرها العرب للمصريين وبالرغم مما عرف عن حنا النقيوس من تعصب ضد الإسلام فقد كتب بعد فتح مصر بخمسين سنة قائلا عن عمرو بن العاص : أنه لم يضع يده على شئ من ملك الكنائس ، ولم يرتكب شيئا من النهب أو الغصب ، بل إنه حفظ الكنائس وحماها إلي آخر مدة في حياته(61) 0
ويقول أيضا : إن كثيراً من المصريين قد أسلموا قبل أن يتم الفتح الإسلامي النهائي لمصر على أن الإسلام قد أخذ ينتشر تدريجيا مع تقدم الوجود العربي بها ، وقد أنقذ الإسلام مصر من التعسف والاضطهاد البيزنطي(62) 0
ولم تكن مدن مصر بعيدة عن تلك الحماية مثل الكنائس والأديرة فقد عم الرخاء وزادت ثروات الشعب المصري تحت الحكم الإسلامي ، بل إن أول معلم من معالم الحضارة الإسلامية في مصر هو اختطاط مدينة الفسطاط (63)، بعد الفتح مباشرة ، منارة للدعوة ومركزاً للعلم والفكر كباقي المدن الإسلامية كالكوفة والبصرة والقيروان بعد ذلك 0
ولما كانت مصر قد تأبت طويلا على الحضارات الغريبة عليها ، وعلى اللغات الوافدة عليها وظلت تحتفظ بخصائصها . سماتها ولغتها ، فإنه قد استرعي نظر الباحثين سرعة إقبال الشعب المصري على الدين الإسلامي وتآلفه مع المؤشرات العربية ، إذ لم يمض قرنان من الزمان حتى انصهرت تماما في الصبغة الإسلامية العربية 0
وذكر المؤرخ توماس ارنولد: " الحق أن كثيراً من مسيحي مصر تركوا النصرانية بمثل هذه السهولة وتلك السرعة التي اعتنقوا بها النصرانية في مستهل القرن الرابع الميلادي ..
كما أن سرعة انتشار الإسلام في الأيام الأولي من الفتح العربي قد تكون راجعة إلي عجز ديانة كالمسيحية ، وعدم صلاحيتها للبقاء ، أكثر من أن تكون راجعة إلي الجهود الظاهرة التي قام بها الفاتحون لجذب الآهلين إلي الإسلام(64) 0
والعجيب في ذلك ما قاله الكونت هنري دي كاستر(65) : " إن الإسلام لم يكن له دعاة مخصصون يقومون بالدعوة إليه وتعليم مبادئه كما في الديانة المسيحية ، ولو أنه كان للإسلام أناس قوامون ، لسهل علينا معرفة السبب في انتشاره السريع ، فقد شاهدنا الملك ( شارلمان ) يستصحب معه علي الدوام في حروبه ركبا من القساوسة ، والرهبان ليباشروا فتح الضمائر والقلوب بعد أن باشر فتح المدائن والأقاليم بجيوشه التي كان يصلي بها الأمم حربا تجعل الولدان شيبا ، ولكنا لا نعلم للإسلام دينا ولا رسلا ولا أحبارا وراء الجيوش ولا رهبنة بعد الفتح فلم يكره أحد عليه بالسيف ولا باللسان(66) 0
وكانت مصر بالرغم من اعتزازها بحضارتها العريقة وتراثها الحضاري قد تخلت عن ماضيها وأقبلت على الإسلام والعروبة بسرعة مذهلة ، ولم تكتف بالدخول في رحاب الإسلام ، بل أبت إلا أن تكون في مركز الصدارة والزعامة ونافست المراكز الإسلامية فى شتى بقاع المعمورة ، حتى جعلها الفاطميون مقرا لخلافتهم الإسلامية وقادت حركة الدفاع عن الإسلام ضد الصليبيين والمغول ، ثم انفردت بالزعامة السياسية والعلمية بعد سقوط بغداد(67) ، وكانت مصر نقطة انطلاق الإسلام إلي إفريقيا حيث تم تحويل مصر إلي قاعدة إسلامية تشع نوراً ودعوةً وجهاداً في سبيل توصيل كلمة الله إلي بقاع الأرض ، تحقيقا لقوله ( ) عن أم سلمة أن رسول الله ( ) " أوصي عند وفاته فقال : الله الله في قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وعوانا في سبيل الله "(68)
فهذه لمحة عن مصر وعن أهل مصر، وحضارتها في الشرائع السماوية، حيث تفتح أبوابها لمن يقبل عليها، لطلب العلم أو الدين، ومن يطلب الملجأ الهادئ، والمستقر الأمين ، أو ترسل أبنائها بالعلم والخبرة ملبين مسرعين ، مهندسين ومعلمين وقراء للقرآن ، وعمالا وصانعين ، لأنهم آمنوا منذ القدم بعون إخوانهم وأشقائهم مخلصين 0
ولقد أقبلت على مصر الشعوب في عصور قوتها وعصور ضعفها على سواء لأنها كانت دائما صاحبة تعطي شيئا أو شيئا يراد ، فيكن لدينا أبداً مع ما نعطيه وعندنا العزة والقوة ما يراد ، ولا محالة كي يراد أن يبرأ من شبهة الزيف ويتنزه عن مظنة التموية(69) 0