رسالة الوسطية والرحمة بقلم الدكتور أحمد عمر هاشم رسالة الوسطية والرحمة "1"
بقلم الدكتور : أحمد عمر هاشم
رئيس اللجنة الدينية بمجلس الشعب
قال الله تعالي: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا" "سورة البقرة: 143" والوسط: الخيار والأجود. ولما أنعم الله علي هذه الأمة بنعمة الوسطية فكانت خير الأمم. خصها سبحانه وتعالي بأكمل الشرائع وأوضح المناهج وأيسر التكاليف وأوضحها. كما قال سبحانه: "هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء علي الناس" "سورة الحج: 78". وفيما رواه الإمام أحمد بسنده عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم - "يدعي نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيدعي قومه. فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما آتانا من نذير. وما آتانا من أحد. فيقال: نوح. من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. قال: فذلك قوله تعالي: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" قال: والوسط: العدل. فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم" "ورواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة من طريق الأعمش". وفيما رواه الإمام أحمد بسنده عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك. فيدعي قومه فيقال: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا. فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم. فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فيدعي محمد وأمته. فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا. فذلك قوله عز وجل: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا".
والآية الكريمة تشير إلي أن الله تعالي حين حول القبلة من بيت المقدس إلي الكعبة المشرفة قبلة إبراهيم - عليه السلام - واختارها لهم. ليجعلهم خيار الأمم. ليكونوا يوم القيامة شهداء علي الأمم. لأن الجميع معترفون لهذه الأمة بالفضل. وواضح أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - لما هاجر إلي المدينة. وكان أكثر أهل المدينة اليهود. فأمر الله أن يستقبل بيت المقدس. ففرحت اليهود. فاستقبلها رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بضعة عشر شهرا. وكان يحب قبلة إبراهيم. فكان يتوجه بالدعاء إلي ربه - سبحانه وتعالي - وينظر إلي السماء. فأنزل الله تعالي قوله: "قد نري تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون" "سورة البقرة: 144".
وكان - عليه الصلاة والسلام - قبل هجرته قد أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس. فكان بمكة يصلي بين الركنين. فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس. فلما هاجر إلي المدينة تعذر الجمع بينهما. فأمره الله بالتوجه إلي بيت المقدس.
وكان الأمر باتجاهه إلي بيت المقدس من الله تعالي. وكان التحويل إلي الكعبة من الله. ووافق رغبة رسول الله - صلي الله عليه وسلم - فقد شرع الله التوجه إلي بيت المقدس. ثم شرع التحول إلي الكعبة. ليظهر من يتبع الرسول - صلي الله عليه وسلم - ممن ينقلب علي عقبيه. قال تعالي: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب علي عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا علي الذين هدي الله" "سورة البقرة: 143" عن البراء "رواه البخاري" - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - صلي إلي بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا. وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت. وأنه صلي أول صلاة صلاها: صلاة العصر. وصلي معه قوم. فخرج رجل ممن كان صلي معه. فمر علي أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي - صلي الله عليه وسلم - قبل مكة. فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذي قد مات علي القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم. فأنزل الله: "وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم" "سورة البقرة: 143".
والكعبة المشرفة التي هي قبلة المسلمين. هي في البقعة المباركة والمكان الوسط فهي في وسط الكوكب الأرضي. تتوسط دنيا الناس شرقا وغربا وشمالاً وجنوبا. وهكذا اختار الله - تعالي - مكان رسالته. وموقع قبلة الصلاة. ومهبط الوحي. هذا المكان الوسط. الذي يتسق مع وسطية الدعوة السمحة. ويتناسب مع الرسالة العامة الخالدة. لترسل أشعة النور والهداية إلي من حولها من جميع بقاع العالم. وهكذا اقتضت الحكمة الربانية أن يكون المكان وسطا في جغرافية الأرض. لتتمكن الدعوة أن تنتشر في ربوع الأرض. وتؤدي أمة الإسلام أمانة التبليغ التي حملها الله - تعالي - إياها. حيث نزل الوحي - قرآنا وسنة - بلسان عربي مبين. وفي أمة عربية. وفي مكان وسط من العالم. كل هذا يؤكد وجوب تبليغ الأمانة التي كلف الله تعالي هذه الأمة بها. وشرفها بإنزال الوحي علي أرضها وإرسال رسول من أنفسهم. وقيام القبلة - الكعبة المشرفة - في هذا المكان الطاهر والحرم الآمن في قلب العالم. وهكذا تتكشف حقيقة نزول الوحي الإلهي في البلد الحرام. والقبلة المشرفة داخل المسجد الحرام. فمكة المكرمة هي مركز الكرة ووسط العالم بأسره. وإن قوله تعالي: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس" يحدد لهذه الأمة دورها في النهوض بالبشرية ورسالتها في قيادة القافلة الإنسانية. فبذلك تتبوأ مكانتها كخير أمة أخرجت للناس. شاء الله لها أن تكون أمينة علي رسالة السماء. وشاهدة علي الناس. وحين تتخلي عن هذه الرسالة. أو تخل بواجبها تكون قد حرمت نفسها من خيريتها. ومن كونها الأمة الوسط. وفقدت كيانها المعنوي ودورها الريادي بين الأمم.
ويستوجب القرآن علي هذه الأمة عبادة الله والجهاد في سبيل الله حق جهاده. لأنه اختارهم واصطفاهم علي سائر الأمم. وكلفهم بشريعة لا حرج فيها ولا مشقة. ولا ضيق ولا عسر. إنها الحنيفية السمحة ملة إبراهيم - عليه السلام - وقد سماهم الله المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة. وفي هذا - أي القرآن - قال تعالي: "يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون. وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء علي الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولي ونعم النصير" "سورة الحج: 77 - 78".
أي أن الله - تعالي - جعل هذه الأمة وسطا عدولا وخيارا. ليكونوا شهداء علي الناس وعلي جميع الأمم. لأن جميع الأمم معترفة بفضل هذه الأمة علي كل أمة سواها. ولذلك تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة في أن كل رسول بلغ قومه. ويشهد رسول الله - صلي الله عليه وسلم - علي هذه الأمة أنه بلغها ذلك.
وفي مقابل هذه المنزلة التي بوأها الله - تعالي - لهذه الأمة. وفي مقابل النعمة علي الأمة أن تقوم بشكر ربها - سبحانه وتعالي - وما أوجبه الله عليها من عبادة وطاعة. ومن أهمها الصلاة والزكاة. وعليهم أن يعتصموا بالله ويتوكلوا عليه "فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولي ونعم النصير" "سورة الحج: 78".
لم تأت رسالة الإسلام الخاتمة في أول تاريخ البشرية ولا في آخره بل جاءت في الوسط. لتكون مصدقة ومهيمنة وحارسة لما جاءت به الرسالات السماوية السالفة.