كانا يتمشيان على النيل .. والشمس تغيب في الافق.. والنسيم يداعب الشجر قال وهو يمسك بيدها في حب
اتعرفين ماذا تحت قدمك الآن؟
ماذا تعني ؟
اتعرفين على اي شيء تقفين.. ان تحت قدمك الصغيرة هذه اربع مدن وثمانية عصور.. وثمان حضارات.. وسبعة آلاف عام من التاريخ
هل تصدقين ان تحت قدمك عصرا رومانيا وعصرا فاطميا وعصرا مملوكيا وعصرا تركيا وعصرا قبطيا وعصرا اسلاميا وعصرا فرعونيا وعصرا حجريا.. اكاد ارى المواكب تخرج في ابهتها ودورعها.. واكاد اسمع صهيل الخيل وجلجلة السلاح.. واكاد ارى الدم يسيل.. والناس تختصم وتتصارع وتتحارب وتتزوج وتتاجر وتهاجر.. واكاد ارى الدموع تلمع على خدود ما تلبث ان تغدو ترابا.. واكاد ارى نظرات الغرور ما تلبث ان تأكلها الديدان.. والمنتصر يرقد الى جوار المهزوم والقاتل يتمدد الى جوار قتيله.. والهاجر الغادر ما يلبث ان يسحب عليه الزمن ستار الهجر فيغدو مهجورا هو الآخر لا حس ولا اثر ولا خبر
اين ذهب الغضب.. اين ذهب الجنون.. اين رقد اليأس.. اين نامت الفتن.. ماذا بقى من هذه النيران المشتعلة في الصدور. قالت الفتاة وهي ساهمة تنظر الى التراب تحت قدميها
ترى هل يبقى شيء من حبنا.. ام اننا ماضون نحن ايضا الى لاشيء قال وهو يضحك. في عصر السرعة الذي نعيشه يكاد يكون الحب فستانا تتعلق به الفتاة لمدى لبسة واحدة.. ثم بعد ذلك تتغير الموضة
هل هذا رأيك ؟
هذا حال اكثر الناس
وهل نحن من اكثر الناس ؟
كل الذين تحت قدمك.. قد اقسموا وهم يبكون ان ما بينهما كان شيئا خاصا نادرا ليس له مثيل
ألم يصدق بعضهم ؟
نعم.. اقل القليل.. الذين استودعوا عند الله شيئا.. فالله وحده هو الذي يحفظ الودائع. واردف وهو ينظر الى السماء الممدودة:
الذين احبوا بعضهم فيه ونظروا الى بعضهم في مرآته.. الذين افرشوه اسرارهم واسلموه اختيارهم.. فأصبح مرادهم مراده.. هؤلاء اهله.. الذين هم اليه.. وليسوا للتراب. قالت وهي مازالت على شرودها تنظر في داخل عينيه :
- واين نحن من هؤلاء قال وهو لايزال ينظر الى السماء الممدوة ؟
الكل يدعي انه من هؤلاء.. ولكن الزمن وحده هو الذي يكشف صدق الدعوى.. ولهذا خلق الله الدنيا ليتميز اهل الدعاوى من اهل الحقائق
- الا ترى نفسك مخلصا ؟
لست من الغرور بحيث اسبق الزمن الى الحكم.. فما اكثر ما يخدع الانسان في نفسه.. وما اكثر ما يستدرج الى ثقة في النفس مبالغ فيها.. ثم يأتي الزمن فيكذبه على لسانه. وشرد قليلا ثم اردف:
الاخلاص هو اخفى الخفايا.. وهو سر لايكاد يطلع عليه الا الله.. ونحن نأتي الى الدنيا او نأتي بدونه ولا يعلم سرنا الا خالقنا. قالت ويدها ترتجف في يده :
- اني خائفه !
- قال وهو يمشي الهوينا:
انا اعيش في هذا الخوف.. انه الخوف الجميل.. الخوف من ان يظهر المكتوم.. فاذا به على غير ما نرضى وعلى غير ما نحب وهو خوف يدفع كلا منا الى احسان العمل.. وهو خوف لا يوجد الا عند الاتقياء.. لانه خوف يحمي اصحابه من الغرور..
ألم يقل ابو بكر.. مازلت ابيت على الخوف واصحو على الخوف حتى لو رأيت احدى قدمى تدخل الجنة فانى اظل خائفا حتى ارى الثانية تدخل.. فلا يأمن مكر الله الا القوم الضالون
- ولماذا يمكر بنا الله ؟
- مكر الله ليس كمكرنا.. فنحن نمكر لنخفي الحقيقة اما الله فيمكر ليظهرها وهو يمكر بالمدعي حتى يظهره على حقيقة نفسه فهو خير الماكرين
- الا توجد راحة ؟
- ليس دون المنتهى راحة
ومتى نبلغ المنتهى ؟
عنده.. أليس هو القائل
(و ان الــــى ربكـــــــ المنتهـــــى)
د مصطفى محمود
علم نفس قرآني جديد