د. محمد عمارة | 14-06-2010 23:23
في سنة 1926م كتب الدكتور طه حسين (1306 ـ 1393 هـ ـ 1889 ـ 1973م) كتابه (في الشعر الجاهلي).. وكان الرجل في ذلك التاريخ يمر بمرحلة انبهاره بالنموذج الحضاري الغربي.. فسطر في هذا الكتاب ثمانية وعشرين سطرًا شكك فيها ببعض ما ورد في القرآن الكريم ـ من رحلة إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ إلى الحجاز، وإقامتهما قواعد البيت الحرام.. ثم حذف الرجل هذه السطور، وطور كتابه، وغير عنوانه إلى ـ (في الأدب الجاهلي) ـ وتجاوز هذه المرحلة التي كان فيها منبهرا بمناهج الشك الغربية ـ الشك العبثي لا المنهجي ـ .. ووصل إلى الدعوة إلى وجوب أن ينص في الدستور على أن لا يصدر قانون يخالف القرآن الكريم!..
لكن طه حسين ـ حتى في مرحلة جنوحه الفكري ـ وبسبب من أنه كان واحدًا من أبرز بلغاء العصر، الذين لم يلحنوا قط في العربية.. ولأنه كان أحد أساطين الإدراك لأسرار التركيب القرآني والبيان العربي.. تحدث عن القرآن الكريم باعتباره إعجازا للبشر.. ومتميزًا عن صناعات البشر في عالم الأساليب.. فكتب عن تفرد القرآن وعلوه على كل مستويات الإبداع البشري، يقول : "لقد قلت في بعض أحاديثي عن نشأة النثر عند العرب: إن القرآن ليس شعرًا ولا نثرًا، وإنما هو قرآن، له مذاهبه وأساليبه الخاصة في التعبير والتصوير والأداء.
فيه من قيود الموسيقى ما يخيل إلى أصحاب السذاجة أنه شعر، وفيه من قيود القافية ما يخيل إليهم أنه سجع، وفيه من الحرية والانطلاق والترسل ما يخيل إلى بعض أصحاب السذاجة الآخرين أنه نثر.
ومن أجل هذا خدع المشركون من قريش، فقالوا إنه شعر، وكذبوا في ذلك تكذيبًا شديدًا. ومن أجل هذا خدع كذلك بعض المتتبعين لتاريخ النثر، فظنوا أنه أول النثر العربي، وتكذبهم الحقائق الواقعة تكذيبًا شديدًا، ولو حاول بعض الكتاب الثائرين ـ وقد حاول بعضهم ذلك ـ أن يأتوا بمثله لما استطاعوا إلا أن يأتوا بما يضحك ويثير السخرية"!..
نعم.. كتب طه حسين ذلك.. وشهد بهذا منذ أربعينيات القرن العشرين.
وإذا كان نفر من أساطين الشرك في الجاهلية، قد شهدوا للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون من كلام الإنس ولا من كلام الجن.. ومع ذلك منعتهم العصبية لما وجدوا عليه آباؤهم من الإيمان بما جاء به القرآن، ومن التحول عن الجاهلية إلى الإسلام.. فإن الجاهلية التي ترى القرآن على أهليها قد شهدت ردود فعل أخرى.. لكنهم جميعًا قد وقفوا أمامه عاجزين عن الإتيان بشيء من مثله..
فالذين قالوا إنه سحر.. وأن الذي جاء به ساحر.. قد سلموا بأنه فوق ما يستطيعون!!.. وكذلك الذين قالوا إنه أساطير الأولين.. سلموا بأنهم لا يستطيعون محاكاته، لأنهم ليسوا هؤلاء الأولين!!.. ومثلهم الذين قالوا إنما يعلمه بشر أجنبي، لا يستطيعون محاكاته والإتيان بمثله!!.. جميعًا سلموا بعجزهم عن مجاراة القرآن الكريم، معلقين سبب العجز هذا على مختلف الأسباب!.. اللهم إلا واحدًا من هؤلاء، دفعته العصبية لقبيلته ـ "بني حنيفة" ـ ضد قريش ـ إلى أن يحاول تقليد القرآن، فجاءت محاولته نموذجًا خالطا من نماذج السخرية والهزل والإضحاك.. وذلكم هو مسيلمة الكذاب (12هـ ـ 633م) الذي قال لأتباعه إن "رحمانا" ينزل عليه.. وإن له ـ هو الآخر كتابًا، جاء فيه: "إن أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر.. والفيل وما أدراك ما الفيل، له خرطوم طويل.. ضفدع بنت ضفدعين، نقي لا تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين.. والليل الأطخم، والذئب الأدلم، والجزع الأزلم، ما انتهكت أسيد من أحرم.. ألم ترك كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى"!!..
ولقد ظلت عبارات مسيلمة الكذاب هذه تثير السخرية، على امتداد أربعة عشر قرنًا.. حتى جاء أحفاده ليصنعوا شيئًا من مثل ذلك ويضعوه على شبكة "الانترنت" قائلين إنه قرآن جديد!!.