أمية النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ وشبهات حول القرآن د.إبراهيم أبو محمد | 02-03-2010 23:07
في احتفالنا بذكرى ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم يحسن بنا أن نتكلم عن عظمة النبي في أميته، وعن الشبهات التي تواترت على كتابه المعجز (القرآن الكريم) في الجاهلية وفي العصر الحديث، ونستبين الحقائق في هذا الصدد، ونكشفها ونجليها للدنيا كلها.. وفي البداية نتساءل هل النبي هو الذي كتب القرآن وألفه ؟
هذا الموضوع يتطلب نوعين من الحوار أحدهما في الشكل والآخر في الموضوع فلنبدأ بحوار في الشكل .
أولا: من المقرر في الدراسات السيكلوجية أن ملامح الذكاء الإنساني تظهر على الإنسان عادة في وقت مبكر من عمره، وفي مرحلة المراهقة يتعشق البطولة ويحب التميز على أقرانه ويهوى أن ينسب إليه كل عمل له صلة بهذ التميز، وغالبا ما تتحدد ملامح الشخصية وقسماتها العامة في نهاية العشرين من العمر، فتعرف مواهبه وهواياته وقدراته على الاستيعاب والتحصيل وتصل هذه المرحلة إلى قمتها عند الخامسة والعشرين من العمر، وعند هذه السن يكون الإنسان في قمة شبابه وربيع عمره، ومن ثم يتحدد مصيره ومسار حياته من حيث النجاح أو الفشل، والإنسان بطبعه يحب أن ينسب إليه من الشرف ما يجعله متميزا في قومه، والكل يحرص عادة على نسبة الشرف إليه، بل إن البعض يحرص على أن ينسب إلى نفسه من الشرف ما فعله وما لم يفعله، ولا شك أن ادعاء تأليف القرآن على ما فيه من جزالة في اللفظ وجرس في النطق وقوة في الإقناع وروعة في المنطق وصدق في تصوير الحقائق فاق به عرائس الشعر وإن لم يكن شعرا، وتجاوز به مقدرة كل أصحاب المعلقات السبع، لا شك أن ذلك كله شرف تشرئب إليه أعناق العظماء وأساطين البلاغة والبيان، وهو ادعاء يرفع صاحبه إلى قمة المجد ويكلل هامته بشرف تأليف كتاب يتحدى به الدنيا في عهده وفي غير عهده وفى زمانه وفي كل زمان بعد أن عجزت الدنيا بإنسها وجنها أن تأتي بمثله أو حتى بسورة من مثله. فكيف ساغ لمحمد أن يصر على أنه أمي وأن ينفي عن نفسه هذا الشرف العظيم، وأنه لم يؤلف هذا الكتاب ولم يخطه بيمينه، اللهم إلا في حالة واحدة هى أن يكون وفاؤه لصدقه وولاؤه لأمانته أعلى وأغلى لديه من كل إغراءات الدنيا. وتلك شهادة أولى تجعل القريب والبعيد والقاصى والدانى يشهد له بالتفرد بقمة الصدق وبأنه بلغ في الأمانة شأوا لم تعرف الدنيا شبيها له أو نظيرا .
من المعروف لكل دارس في التاريخ والسير أن الله جلت حكمته أراد أن تكون حياته صلى الله عليه وسلم صفحة مفتوحة يعرفها الجميع، ولم يسلط الضوء على حياة بشر فيكشف كل ما فيها مثلما سلط الضوء على حياة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها، ولم يعرف في تلك الحياة ما يشينه أو يخدش من كرامته، بل إن الرأى العام القرشى لم يجمع على صدق رجل وأمانته وعفته وخلقه العظيم كما أجمعت قريش على شخصية محمد بن عبد الله قبل البعثة، وقد شاء الله أن تكون شهادتهم هم دليلا على صدقه ودليلا أيضا على أنهم حين يكذبونه بعد ذلك فهم يتناقضون مع أنفسهم، وكان تدبير القدر في هذا الشأن أبعد من مجرد إجماع قوم على رجل منهم بأنه الصادق والأمين يستودعون عنده ما يخافون عليه من الأمانات ويستأمنونه على أخص أسرارهم، ولو أنه ادعى أنه ألف القرآن وكتبه من عند نفسه لصدقوه، فهم مع كثرة تجاربهم معه واحتكاكهم به واحتكامهم إليه في أخطر قضاياهم لم يجربوا عليه كذبا قط، ومع ذلك فهو لم يدع مرة أنه ألف القرآن وكتبه من عند نفسه على ما في ذلك من شرف وإنما كان دائما يصر على الحقيقة ويؤكد دوما أنه يتلقاه من ربه".
فإذا كان الأمر كذلك فكيف يسوغ في العقل أن يتهم من كان مثله بأنه يكذب...... وعلى من..... على الله... فيدعى أنه نبي وأنه يتلقى من ربه وحيا.. وهو من هو، هو المعروف بينهم بالصادق والأمين، وبأنه في صدقه وأمانته لا مثيل له أو شبيه، وهكذا شأن القدر الأعلى يقيم حجة الحق وبرهانه بوسائل شتى منها ألسنة الباطل نفسه، فياعجبا لأقدار الله .
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ . قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ) (يونس: 15-17).
إن أهل البيئة العربية عموما وأبناء قريش على وجه مخصوص وتلك هي بيئته التي نشأ فيها وترعرع بين أحضانها يحبون الفخر بأصلهم وقوتهم وكرمهم، كما يحبون الفخر ببطولة أبنائهم وبلاغة شعرائهم، ولم تعرف الدنيا لا في القديم ولا في الحديث أمة من الأمم تقدس الكلمة لدرجة أنهم كانوا يقيمون لها معرضا ويبنون لها عرشا ويصنعون لها عرسا، ويعلقون أجملها بأستار الكعبة تخليدا لها وتقديرا لقائلها.
فهل يكون من المعقول في هذا الجو المشبع بكل أضواء الفخر والتقدير أن تكون لدى محمد موهبة يعلو بها فوق كل أقرانه من الشباب، والشعراء منهم والبلغاء ويستطيع بها لفت الأنظار وجذب الأضواء إليه، ثم يكتمها ويؤخرها إلى سن الأربعين....؟
ثم من أدراه أنه سيعيش إلى سن الأربعين حتى يتمتع بثمرة موهبته هذه...؟
فهل هناك بشر علمه القرآن وأملاه عليه ....؟
وإذا لم يكن هو الذي ألفه، لكن أملاه عليه شخص آخر فإن السؤال يظل مطروحا ألم يكن من الأجدر لمن أملاه على النبي أن يأخذ هو هذا الشرف لنفسه وأن يتميز وينفرد به بين البلغاء والعظماء من أهل الفصاحة والبيان......؟
وإذا كانت هذه الفكرة، فكرة الإملاء وأن غيره من البشر هو الذي أملاه عليه، فمن يا ترى هو هذا الغير..؟ وهل ظل يمليه عليه ويعلمه إياه قرابة ربع قرن من الزمن في سرية تامة بحيث يظل مجهولا دون أن يعرفه أحد طوال هذه المدة..؟
إن هذا القول ضد كل القواعد المقررة في دراسة الشخصية الإنسانية وما جبلت عليه، كما أنه أيضا ضد الطبيعة المتعارف عليها في البيئة العربية التي يزخر تاريخها كما تزخر أدبياتها بحب الفخر والسعي إليه.
ثم ألم يفكر في الأمر أعداء محمد وهم أشد الناس حرصا على صرف الناس عنه والصد عن دعوته فيكشفون عن هوية هذا المعلم المجهول؟ وهل هو من الإنس أم من الجن ؟؟ ومن العرب أم من العجم ويفضحون سريرته ومؤامرته على تسفيه أحلامهم وسب آلهتهم ...؟
الغريب أن هذا الزعم نفسه خطر ببال أهل الجاهلية الأولى كما يخطر الآن ببال أهل الجاهلية الحديثة، ومن روعة القرآن وقدرته على ضحد الشبه أنه سجل هذا الزعم وضحده فقال تعالى حكاية عنهم: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا . وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا . قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)(الفرقان: 4-6)
( أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ . أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ . أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ . وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون: 8 6 ـ 71).
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ . وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيد) (فصلت: 4. ـ43).
( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا . وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) (الإسراء: 76 ـ 77)
(وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ. وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ )( النحل: 1.1 ـ 1.3).
(وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ . فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ . كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ . لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ . فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ . أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ . أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ . ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ . مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) (الشعراء: 192ـ 2.7)
والذين قرؤا التاريخ ودرسوا سيرته عليه الصلاة والسلام يعرفون جيدا أنه قد اجتمعت فيه كل خصائص الكمال الخلقي من حيث الأمانة والعفة والصدق والوفاء والشهامة والمروءة ونجدة المظلوم ونصرة الضعيف والعطف على ذوى الحاجات، وقد سجل لنا التاريخ نبوغه وتفرده وتميزه على أقرانه في كل تلك الصفات، غير أن التاريخ نفسه لم يسجل لنا نبوغا أو بلاغة عرفت عنه في عالم الكلمة شعرا أو حتى نثرا، وإنما سجل لنا أنه أمى لا يقرأ ولا يكتب ولم يذهب إلى معلم قط، فمن أين جاءته يا ترى كل هذه الثروة من البلاغة والبيان والتي أعجزت كل العرب في زمانه وفي غير زمانه أن يأتوا بمثلها، هل كانت هذه الموهبة ثورة مستكنة في نفسه خبأها إلى سن الأربعين ثم فجرها فجأة وتحدى بها العرب السابقين منهم واللاحقين فأعجزهم....؟
وهل يمكن لمنهج علمي أو حتى لإنسان يعيش في الحياة بنصف عقل أن يقبل مثل هذا الافتراض المزعوم؟!
إن العقل الذي يفترض هذا هو عقل فقد التعقل ولا يصح معه حوار أو مناقشة .وليس القرآن إلا كما قال الله:
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ . وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ . أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ . وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ . فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ . كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ . لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ . فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ . أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ . أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ . ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ . مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) (الشعراء: 192ـ 2.7)، وللحديث بقية..
* رئيس مجلس إدارة المؤسسة الأسترالية للثقافة الإسلامية