في المأثور الشعبي: "ربنا عرفوه بالعقل"
وفي هذه الحكمة الشعبية تعبير دقيق وعميق عن مقام العقل في الإسلام.. فألف باء الدين والتدين، وجوهر الدين والتدين هو معرفة الله.. والسبيل إلى معرفة الله هو العقل وليس النقل.. لأننا كي نؤمن بصدق النقل والوحي لابد أن نؤمن ـ قبل ذلك ـ بصدق الرسول الذي جاءنا بهذا النقل والوحي.. وكي نؤمن بصدق الرسول لابد أن نؤمن ـ أولاً ـ بوجود الإله الذي أرسل الرسول وأنزل إليه الوحي والنقل والكتاب.. والسبيل إلى معرفة الله والإيمان به هو العقل الذي يتأمل المصنوعات فيدرك وجود الصانع، ويتفكر في الإبداع فيؤمن بوجود المبدع.. وهكذا تكون الأولوية ـ في الإيمان الديني ـ لمعرفة الله.. وتكون الأولوية ـ في سبل معرفة الله ـ للعقل ـ ..
ولقد أدرك هذه الحقيقة ـ حقيقة تفرد الإسلام بهذه العقلانية المؤمنة ـ عدد من المستشرقين الذين درسوا الإسلام دراسة مقارنة .. ولقد أورد العلامة "سير توماس أرنولد" (1864 ـ 1930م) ـ وهو من عمالقة الفكر الغربي والثقافة الإنجليزية ـ في كتابه الفذ (الدعوة إلى الإسلام ـ شهادة المستشرق الفرنسي "إدوارد مونيه" (1856 ـ 1923م) ـ وهو الذي ترجم القرآن للفرنسية وكتب كتابًا عن (حاضر الإسلام ومستقبله) التي قاله فيها:
"الإسلام في جوهره دين عقلي، بأوسع معاني هذه الكلمة من الوجهتين الثقافية والتاريخية، فإن تعريف الأسلوب العقلي Rationalism بأنه طريقة تقيم العقائد الدينية على أسس من المبادئ المستمدة من العقل والمنطق ينطبق على الإسلام تمام الانطباق..إن لدين محمد كل العلامات التي تدل على أنه مجموعة من العقائد قامت على أساس المنطق والعقل..
إن الإيمان بالله والآخرة - في الإسلام- يستقران في نفس المتدين على أساس ثابت من العقل والمنطق، ويلخصان كل تعاليم العقيدة التي جاء بها القرآن، وإن بساطة هذه التعاليم ووضوحها لهي على وجه التحقيق من أظهر القوى الفعالة في الدين وفي نشاط الدعوة إلى الإسلام.
لقد حفظ القرآن منزلته من غير أن يطرأ عليه تبديل أو تغيير، باعتباره النقطة الأساسية التي بدأت منها تعاليم هذه العقيدة، وقد جهر القرآن دائمًا بمبدأ الوحدانية في عظمة وجلال وصفاء لا يعتريه التحول، ومن العسير أن نجد في غير الإسلام ما يفوق تلك المزايا.. وفي هذا تكمن الأسباب الكثيرة التي تفسر لنا نجاح جهود الدعاة المسلمين.
وكان من المتوقع لعقيدة محددة كل التحديد، خالية كل الخلو من جميع التعقيدات الفلسفية، ثم هي ـ تبعًا لذلك ـ في متناول إدراك الشخص العادي، أن تمتلك - وإنها لتمتلك فعلاً- قوة عجيبة لاكتساب طريقها إلى ضمائر الناس"..
هكذا شهد البروفسور "إدوارد مونتيه" ـ وهو المستشرق الفرنسي الكاثوليكي والخبير بالقرآن والثقافة الفرنسية ـ على عقلانية الإسلام.. وعلى البساطة الفطرية لهذه العقلانية الإسلامية.. كما شهد على أن هذه العقلانية الفريدة قد كانت السر في الانتشار السريع والعجيب لهذا الدين.. الذي قامت عقائده على أساس "المنطق والعقل"..
ولعل في تسليط الأضواء على مثل هذه الشهادات الرد العلمي والحاسم على الافتراءات الغربية على الإسلام ـ فهذه شهادة شاهد من أهلها.. وكذلك تنبيه الجامدين من أبناء جلدتنا الذين يتنكرون لهداية العقل ـ بل ويتحسسون مسدساتهم عندما يذكر العقل.. ويحسبون أن العقلانية تهمة، لأنهم لا يميزون بين "العقل" وبين "الهوى".. ولا يفرقون بين "العقلانية المؤمنة" وبين "العقلانية اللادينية"!