المصريون
د. إبراهيم أبو محمد | [b]29-06-2010 01:08
ونحن بصدد الحديث عن القيم، نجد أن ثمة ضرورة لطرح سؤال يتصل بمعيارية القيم، فعلام تستند تلك المعيارية؟ هذا السؤال فرضته حالة الانبهار بالمنهج الغربي من بعض الذين استجابوا للتحدي الذي يواجه الأمة، ولكنهم كما قلنا من قبل دون تكرار تناولوا الموضوع من موقع التبعية المنبهرة بما حققته حضارة العصر من منجزات وإنجازات في عالم المادة، وهذا المنطلق الخاطئ من بدايته ظل يحكم هؤلاء في رؤيتهم ورؤاهم للمشكلة، ومن ثم كانت طريقة المعالجة تكرارًا لنفس المنهج الذي أدى إلى وجود الأزمة وهيأ مناخلها وبيئتها وقد زاد الإشكالية تعقيدًا أن هذا المنهج المعلب والمعبأ في بيئة مختلفة عن بيئتنا وقيمنا لا يحمل في مكنونه ثوابت الأمة ولا يحسب حسابها.
معيارية القيم في المدرسة الوضعية:
المنهج الوضعي لدى علماء الاجتماع يُرجع المعيارية إلى الواقع المتعارف عليه بين الناس في البيئة المراد بحثها، وتحديد المعيار يجب ألا ينبع من خارجها، ومن ثم فالمعيارية تستند إلى المقاييس المتعارف عليها اجتماعيًّا وعرفيًّا.
نقد هذه المعيارية:
إن تحديد المعيار بهذا الشكل في الحقيقة يوقعنا في إشكالية أخرى، ذلك لأن منهج البحث هنا وإن ارتدى ثوب العلمية والموضوعية والحياد إلا أنه فتح الباب أمام نـزعات وأهواء ذاتية في تحديد المثال أو النوذج الاجتماعي المراد اعتباره مقياسًا ومعيارًا، ومن ثم سيواجه الباحث بحالة من السيولة المغرقة التي لا تقف عند حد، الأمر الذي يفضي بالضرورة إلى نسبية مطلقة لا تساعد في تشخيص المثال أو حتى تحديده وتحييده، وهذه السيولة في الحقيقة تسببت فيها الرؤية العقلية التي فصلت القيمة عن مصدرها الأصلي، ونظرت إليها نظرة مادية بحتة، واستبعدت من حسابها كل اعتبار لعالم الغيب والجانب الروحى في تكوين القيم، وهذه النظرة المنفصلة لدى المدرسة الوضعية يلخصها لنا الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه الحق الإسلامي في الاختلاف، فيقول: "النظر الملكي" أو إن شئت قلت "العقل الملكي"- نقصد بالعقل الملكي أي العقل المادي الذي لا ينظر ولا يتأمل إلا في عالم الملك بينما صلته بعالم الملكوت مقطوعة- يستبعد هذا المصدر الملكوتي (أي عالم الآيات) لشبهة الإيمان التي تلحقه، لكنه يستقي القيم المأخوذة منه، مسلمًا باختلافها، ولما كان هذا العقل يختص بالنظر في الظواهر وحدها، قرر أنها تخلو من القيم، بحجة أن الظاهرة والقيمة متعارضتان، لأن الأولى من جنس الواقع، والثانية من جنس الواجب؛ ثم لما كان يقر بوجود القيم واختلافها، قاصدًا النظر فيها على نسق نظره في الظواهر، احتاج إلى أن يجلب لها مجالا يسعها غير مجال الظواهر الذي لا يمكن أن يسعها؛ وقد وجد ضالته في "مجال الثقافة"؛ فالثقافة تبدو خير ميدان يستقبل هذه القيم التي قطعت عن أصولها في عالم الآيات؛ وحتى يضفي العقل الملكي المشروعية على ما قرره من النظر في القيم على نحو نظره في الظواهر، وجد في صفة "الانفصال عن الآيات" بغيته، حيث إن إلحاق القيم بالثقافة يكسبها هذه الصفة التي تتميز بها الظواهر؛ والانفصال عن الآيات يورث الانفصال عن الإيمان.
يتحصل من هذا أن العقل الملكي أقام "الظاهرة" مكان "الآية" وأقام "مبدأ اختلاف القيم في مجال الثقافة" مكان "مبدأ اختلاف الآيات في فضاء الوجود" وأقام "معيار الانفصال" مكان "معيار الاتصال"؛ إذ صارت القيم منفصلة بعد أن آوتها ثقافة مخصوصة، وهذه الثقافة أريد لها أساسا أن تكون منفصلة؛ أما الظواهر، فالأصل فيها أن تكون منفصلة؛ وقصدنا هنا هو أن نبين كيف أن هذا العقل ذا الصبغة الانفصالية انتهى إلى جعل التصادم صفة لازمة للقيم؟ وحتى لما تولى بعض المفكرين البحث عن السبل التي تخرج من هذا التصادم الذي ضرره بالأمم لا يقل عن ضرره بالأشخاص، ما استطاعوا الاهتداء إليها، لا لعدم وجودها أو تعذر الوصول إليها، وإنما لبقائهم متمسكين بهذا العقل المنفصل؛ فيتعين إذن أن نبسط الكلام في طبيعة هذا الصدام بين القيم، ثم في الطرق التي اتبعت في دفعه، حتى إذا وقفنا على وجوه الخلل فيها -وهي ترجع في جملتها إلى فصل القيم عن سياقها الملكوتي- عمدنا إلى بيان كيف ندفع وجوه هذا الخلل البنيوي، واضعين القواعد الأساسية للخروج من هذا الصدام بين القيم؛ فلنمض إلى تفصيل هذه المطالب على هذا النسق. لقد اشتهر مفهوم "اختلاف القيم" عند أهل العقل الملكي باسم "تعدد القيم"، جريا على عادتهم في تبديل المنفصل مكان المتصل؛ ﻓـ "الاختلاف" وصف كيفي، والكيف أمر اتصالي؛ في حين أن "التعدد" وصف كمي، والكم أمر انفصالي؛ وما لبثوا أن اشتقوا من المصدر الصناعي، وهو "التعددية"، أي "خاصية كون الشيء متعددا"؛ وانتهوا بجعله اسما دالا على "الاتجاه الذي يقول بتعدد القيم" أو قل "المذهب الذي يدعو إلى كثرة القيم" (pluralism)، وضده "المذهب الذي يدعو إلى وحدتها" .
فإذا كانت هذه هي البيئة التي نشأ فيها المنهج الوضعي، وكان هذا هو السياق الزمني الذي ترعرع فيه هذا المنهج، فما يجوز لنا أن ننقله بملابساته وسياقه لنطبقه على بيئة أخرى، يملك أصحابها من ثوابت الوحي وعصمته ما يضمن لهم أعلى مستوى من صحة وسلامة التصورات عن الإنسان والكون والوجود، بزمانه ومكانه، ومن ثم فلا يجوز أن نواجه مشكلات واقعنا بمنطق "العاهات المزمنة" كما يقول أستاذنا المفكر الإسلامي المعروف الدكتور محمد عمارة .
ومن ثم فالباحث المسلم ليس بالضرورة أن يكون ملتزمًا بمعايير منهج المدرسة الوضعية. لأن تبعيته لها والتزامه بها يتنافى، ويجعلنا في هذه الحالة أمام نماذج وأمثلة لا حصر لها ولا حدود، وكلها تنطلق من نـزعات ذاتية يدّعي المنهج الوضعي أنه جاء ليحاربها ووضع قواعده ليقضي عليها، لأنها ببساطة تتنافى مع المنهج العلمي وتخرجه عن حياده الذي يجب أن يتحلى به في بحث الظواهر الاجتماعية.
وهذا في الحقيقة أول التناقضات التي تواجه الباحث في المنهج الوضعى.
وإذا كان المنهج العلمي يرفض التحيز ويدعو إلى الموضوعية، فإن المنطلق من البداية يجب أن يتحدد؛ ليتحدد على ضوئه منهج البحث بشروطه.
يقول الدكتور راجي إسماعيل الفاروقي في مؤلفه العلوم الطبيعية والاجتماعية من وجهة النظر الإسلامية: "إن إضفاء الصبغة الإسلامية على العلوم الاجتماعية لابد وأن يبين العلاقة بين الواقع المدروس بذلك الجانب أو الجزء من النموذج الإلهي المناسب له. ولما كان النموذج الإلهي هو العادة أو الناموس فإن الواقع ينبغي أن يحققه، وتحليل ما هو كائن ينبغي ألا يهمل ما يجب أن يكون. وبالإضافة إلى ذلك فإن النموذج الإلهي ليس غائبًا فقط ومتمتعًا بشكل وجود منقطع الصلة بالواقع، إنه واقعي، بمعنى أن الله تعالى قدر احتواء الواقع إياه، إنه نوع من الوجود الفطري غرسه الله برحمته فى الطبيعة الإنسانية وفى الفرد الإنساني أو المجموع، وفي الأمة بوصفها تيارًا مستمرًا للوجود يستخرجه العمل المعنوي إلى حيز الفعل والتاريخ. ولهذا فإن كل تحليل عملي يحاول -إذا كان إسلاميًّا- أن يكشف هذا النموذج الإلهي الموجود بالقوة فى الشئون البشرية، وأن يبرز ذلك الجزء الفعلي منه وذلك الجزء الموجود بالقوة، وأن يكشف عن عوامل تحقيق اكتمال عملية الاحتواء أو فاعليتها" .
وإذا كان الآخرون قد وضعوا لأنفسهم مناهج تعارفوا عليها وارتضوها، منطلقات لأبحاثهم وقد بدأت هذه المنطلقات من موقع الرفض والقطيعة لموروثهم الديني وتراثهم الكنسي، وكانوا معذورين في ذلك؛ لأن هذا الموروث وذلك التراث لم يكن يحمل تصورًا صحيحًا عن أغلب القضايا التي تتصل بحياة الإنسان وكيانه الروحي والمادي وحاضره ومستقبله، ذلك فضلا عما كان يحمله هذا التراث من عداء للعقل ومخاصمة للعلم والفكر، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى صراع مرير بين العلم والدين، وانتهى في نهاية المطاف بانتصار العقل وهزيمة الكنيسة، ومن ثم أضحت الصلة منبتة بين الدراسات المنهجية والتراث الديني لديهم واختفت الثوابت ولم يكن هنالك مطلقات، بل أصبحت النسبية هي السمة السائدة في كل شيء.. نسبية في الأخلاق.. ونسبية في القيم وحتى نسبية في العقائد. ولقد أضحى من غير المعقول وغير المقبول أن ينطلق الباحث المسلم في بحثه من موقع التابع المنسحق، فما يجوز أن نكون تابعين في كل شيء لمن ليسوا من دين الله على شيء، وهنا لابد من توضيح الفروق بين عالم الأشياء وبين عالم الأفكار، فعالم الأشياء عالم محايد، أما عالم الأفكار فليس محايدًا، لأن الأفكار تحمل تصورات أصحابها عن الإنسان والكون والحياة، ومما لاشك فيه أن للمسلم تصوره الخاص والمميز والمتفرد في هذا المجال، ومن ثم وجب أن يكون المنطلق مختلفا، وباختلاف المنطلق تختلف الرؤية إلى القيمة من حيث المصدر والمعيار وترتيب القيمة ضمن الأولويات وتأثيرها في سلوك الناس أفرادا وجماعات وأمـمًا.
ومن ثم فلا يقبل من الباحث المسلم أن ينطلق في معالجة مشكلات واقعه بعيون الآخرين ومنهجهم.
• رئيس مجلس إدارة المؤسسة الأسترالية للثقافة الإسلامية - أستراليا
[/b]