د. محمد عمارة | 06-07-2010 00:00
إن الفكرة الجوهرية، والمنطلق الأساسي الذي أنطلق منه فلاسفة الإسلام في الرد على التساؤلات والاعتراضات حول علم الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالجزئيات، إنما تنبع من مبدأ تنزيه الخالق عن مشابهة المخلوقات.. ومن ثم ضرورة التفكير في علمه وسمعه وبصره ـ وكل صفات كماله وجلاله ـ بعيدًا عن قياسها على صفات الإنسان المخلوق..
إن علم الإنسان ـ مهما بلغ ـ هو ثمرة للوجود الذي يحيط بالإنسان العالم، ولذلك فهو محدود ويعرف من هذا الوجود المحدود.. بينما علم الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو سبب وجود هذا الوجود.. فهو به محيط إحاطة الصانع بمصنوعه.. بينما الإنسان جزء ضئيل من الصنع والمصنوع.
إن صانع الآلة ـ وهو بشر ـ محيط بكل أجزائها وتفاصيلها، لأنها صنعه ومصنوعه.. بينما الجزء من هذه الآلة لا يحيط بالآلة جميعها ولا يعلم تفاصيلها كلها..
هذا في حالة الآلة، التي يصنعها البشر.. فما بالنا بالصانع الأول والمبدع الأول وصاحب طلاقة القدرة التي ليس لها حدود؟؟..
إن العلم الإسلام يقول لنا: إن الإنسان "عارف" لأن المعرفة جزئية، ونسبية، وكسبية، ويسبقها جهل.. فأنا أعرف علمًا من العلوم معرفة جزئية، ونسبية، وكسبية.. وقد كنت جاهلاً بما عرفت من هذا العلم قبل أن أعرف هذا الذي عرفت.. أما الله ـ سبحانه وتعالى ـ فلا يوصف بأنه "عارف" ـ لأن المعرفة جزئية ـ بينما علم الله كلي ومطلق ومحيط .. وعلم الله لم يسبقه جهل.. وإنما هو سبب الوجود، وسابق على إيجاد الموجودات وتكوينها..
ولذلك، لا يجوز لنا ـ في العلم الإسلامي ـ أن نقول: "علمت الله"، لأن علمنا ومعرفتنا جزئية لا تحيط بذات الله ولا بكنه حقيقته، ولا بآفاق صفات جلاله وكماله.. وإنما نقول: "عرفت الله"..
لذلك، لابد لنا من أن ننطلق من منطلق التفرقة بين الخالق وقدراته المطلقة، وعلمه الكلي والمحيط.. وبين المخلوق، وقدرته النسبية، وعلمه الذي هو دائمًا جزئي.. وكسبي.. ونسبي، وسبقه جهل.. فما أوتي المخلوق من العلم إلا قليلاً..
إن الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ ليس كمثله شيء.. وفي هذه الحقيقة الإيمانية والعقلية بداية التفكير السليم في هذا الموضوع ـ موضوع طلاقة العلم الإلهي بكل ما في الوجود..
وإن إحاطة خالق العالم والوجود بكل ما في هذا العالم وهذا الوجود تفترق افتراقًا حاسمًا عن معرفة المخلوق الذي هو ذرة في هذا الوجود..
إن تصور الذات الإلهية، وعلمه، وقدرته، وإحاطته، كما يتصور البشر، هو منبع "الوساوس" في هذا الموضوع.. وتنزيه الذات الإلهية عن مشابهة المخلوقات، وإدراك فرادة قدرته، وإطلاق علمه وإحاطته بكل ما خلق ويخلق هو بداية طريق الإدراك السليم في موضوع علم الله المحيط بكل ما في الوجود ـ الجزئيات والكليات ـ ..
لذلك، كان تنزيه الذات الإلهية عن مشابهة المحدثات.. ورفض قياس ذاته ـ سبحانه ـ على شيء من خلقه ـ أي رفض قياس الغائب على الشاهد ـ معلم من معالم تميز الفلسفة الإسلامية عن غيرها من الفلسفات..