د. إبراهيم أبو محمد | 13-07-2010 00:45
حين تسقط ثقافتنا نضل الطريق وتضيع البوصلة ولا يعرف الإنسان من هو، ولا ابن من، ولا من أين جاء، ولا إلى أي حضارة ينتمى ، ولا إلى أين تكون وجهته.
والحديث عن التغيير يكون لغوا لا معنى له ما لم تستعد الأمة ذاكرتها المفقودة باستعادة ثقافتها من الضياع وحضارتها من الاستلاب وشخصيتها من الانسحاق والهوان والتبعية المذلة.
ومن ثم فالدعوة إلى التغيير تحتاج معراجا جديدا تجتاز به الأحزاب المختلفة حدود المأساة التى تعيشها أمتنا، ويتحرر بها الأفراد من أسر الوثنيات السياسية التى تحالفت مع وثنية رأس المال ، تلك التى يعبر البعض عنها بمصطلح زواج السلطة برأس المال ،وهو زواج يفقد شرعيته حين يستبيح مصالح الأمة ويتجاهل صرخات الفقراء والكادحين وينتهك أبسط حقوق الإنسان. ويقسم المجتمع إلى سادة وعبيد ، سادة يستمتعون بكل شئ ولهم أن يأمروا وعلى الدنيا أن تجيب ، وإلى عبيد ليس من حقهم شيئا ولا حتى التعبير عن الرغبة أو الأمل في فك القيود عن أيديهم ورقابهم .
ولا أتجاوز حدود الواقع المر حين أقرر وأعترف بأن الليل قد طال وأن صبح العرب الذي كاد أن يشرق مزهوا بميلاده قد مزقوه بأيديهم حين تخلوا عن دينهم ثم تخلى بعضهم عن بعض وأسلم بعضهم بعضا.
ولا أتجاوز الحد أيضا حين أعترف صارخا أن الظلام قد لف بالفعل كل بقعة من ديار المسلمين لدرجة حولتهم إلى غثاء كغثاء السيل لا يصلح شيئا حتى ولا حطبا للنار ،
تلك مأساة من باب الصدق مع النفس لا بد من الاعتراف بها ،
ففي تضاريس واقعنا يستلفت الانتباه أن الأخطار التي تحيط بأمتنا أكثر من أن تحصى أو تعد، لكن أشدها خطورة و أبشعها تدميرا سقوط الثقافة، وسقوط الثقافة يعنى فقدان الطريق وغياب الانتماء ، ولعل الباحث يلحظ أن فترة السبعينات من القرن الماضى شهدت تحولات كثيرة فبعض الأنظمة في الدول الاسلامية كانت تصلى ولكن لغير قبلتها ، بعضها كان يصلى ويتوجه إلى سماء الكريملين، يستخلفها بحق نجومها الحمراء أن تسقط عليه مزيدا من بركانها في التنوير والعدالة الاجتماعة والتطبيقات الاشتراكية وحماية حقوق الكادحين حتى تتمكن البيروليتاريا من دحض الامبريالية والعملاء والثورة المضادة وتحقق انتصاراتها في الداخل والخارج معا ، وما إلى ذلك من الشعارات التي باتت معروقة وثبت فشلها وسقط مروجوها بعد سقوط الماركسية في البيئة التى ولدت فيها.
شطر أخر من هذه النظم كان ولا يزال يصلى في الاتجاه العكسي فهو يسبح بحمد البيت الأبيض وأهله ، ويهتف بأمجادهم في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويهيم بحبهم في الصباح والمساء ، ويبشر مع المبشرين بانتصارهم في خلق كونية جديدة يصبح العالم فيها قرية متحابة يسودها السلام والأمن ، وينعم الناس فيها بفردوس جديدة يتحقق فيها ما يتمناه الإنسان وأكثر مما يتمنى. وهكذا نام العالم الإسلامي ومنه مصر بالطبع على حلم جميل، بدأت الغفوة الأولى فيه بالانفتاح وما يجلبه من خير ينعم فيه المشردون بالاستقرار ، ويئوب الغائبون عن ديارهم ، وفيه تتحقق أحلام المحرومين والفقراء والبائسين وهكذا امتلات النوتة الموسيقية بمعزوفة حلوة عزفتها صحف الدولة وتبارى كتابها في شرح أنواع النعيم والرخاء الاقتصادى الذى يجلبه الاستثمار والانفتاح والخصخصة، وانخدعت أسماع الحيارى وهفت أفئدة المتعبين وأغمض الشعب عيونه الجريحة بعد حرب طويلة علي أحلام وردية توشك أن تتحقق ، فاذا به يصحو وقد ضاع منه كل شئ في المدائن
والقرى ، الناس و الزرع و الحيوان والبنية التحتية والمستشفيات، فقد وضع الوافد الجديد بماله ومعه بعض الفاسدين أيديهم على كل أساسيات الحياة للفقراء والكادحين بعد أن اغتالوا من الدنيا كل ما يملكه الفقراء والمتعبون، حتى الحلم الذي عاشوه في غفوتهم وغفلاتهم حولوه إلى كابوس من نوع مخيف.
وصحا النائمون من غفوتهم وغفلتهم، والمنساقون وراء خدعة الانفتاح والخصخصة فوجدوا أنفسهم أسرى لصاحب السيادة الذي لا راد لقضائه ولا يعلو صوت فوق صوته. بدأت رحلة جديدة من المعاناة في قيود و أغلال السادة الجدد الذين يقيدون أيدى العالم وأقدامه بسلاسل من ذهب ، يفرح المسجونون بالنظر إلى بريقها اللامع ، كما يتلهون كل يوم بسعرها في السوق
والبورصة بين صعود هبوط ، ثم لا يبذلون جهداً في سبيل الخلاص والحرية لأن سماسرة البنك الدولي وصندوق النقد قد أحكموا ربط الأعناق ومعها الأيدي والأرجل حتى يتمكن السيد من كل شئ في العبيد ، ومن ثمّ يتعامل معهم و كأنهم قطيع من الغنم، فهو وحده الذي يحلبهم متى شاء، ويذبح منهم متى شاء، وهو وحده الذي يمدهم بآلات الحرب ، وهو وحده الذي يرعى لهم السلام،وعصاه دائما جاهزة لأي شاة شاردة.
وقد وصلت بنا حالة الوحل السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي وما يصحبها من فساد مستفز حتى أصبحت تمسك بخناقنا وتحدث في جسد الأمة انواعا من الخروق والعاهات التى قطعت روابط الأخوة والأصل الواحد واللغة الواحدة والدين الواحد وجعلتنا نتحاور بالنار بدل الكلمة ، ونمزق إطارنا، ونتحالف مع العدو على حساب الشقيق، ونحكم إغلاق المعابرعن أشقاء فيهم أيتام وأرامل تحت الحصار، وندمر أنفاق التنفس ومحاوت التفلت من هذا الحصار الظالم ونبنى أسوارالعار والكراهية تحت دعاوى وعناوين تسيئ إلى الذات وتسر العدو وتحبط الصديق والشقيق ولا تقنع طفلا غرا فضلا عن حر مدرك لأبعاد الصراع وأهدافه ومجالاته، الأمر الذى يجب أن يدفعنا بقوة إلى البحث عن منفذ للخروج من هذا الوحل، وإلى وسيلة إغاثة وإنقاذ لا لمركبة الوطن فقط، وإنما لسفينة الأمة كلها التى أوشكت أن تغرق لكثرة ما فيها من خروق بفعل أبنائها في الداخل أولا ثم بفعل أعدائها في الداخل الخارج معا.
وسقوط الثقافة يعنى أننا كمصريين نفقد الذاكرة فلا نعرف من نحن ولا أين موقعنا في ذلك العالم المتغير مع كل يوم ،والذى يتحرك في قفزات جريئة نحو المجهول فى مستقبل لاندرى ما اللة فاعل به.؟
فعلى مستوى الداخل هنالك تمرد معلن صدر من رأس الكنيسة يرد أحكام القضاء ويهزأ بالنظام ويعلن في صلف أنه لن ينفذ أحكام القضاء وليس قلقا من أي شئ ، وكان رد فعل النظام مشينا ومخزيا تجاه هذا التمرد، فبدلا من مواجهته بالغ النظام في طمأنة المتمرد وبعث له ببعض رموزه في حالة من استجداء رضاه والبحث له عن مخرج ، ثم كانت الكارثة الكبرى أن المادة الثانية من الدستور والتى حرص النظام على تجميدها طوال فترة حكمه هى التى أنقذته من هذه الورطة ،فعلى مدار ما يقرب من ثلاثة عقود والنظام يعادى مضمون تلك المادة ويعاقب بسجونه ومعتقلاته كل من يدعو لتفعيلها وتحويلها إلى واقع ويطلق كلابه لتصفهم بالظلاميين مرة وبجماعة طالبان مرة ثانية وبدعاة الإمارة الإسلامية تالثة وبالجماعة المحظورة مرة رابعة وخامسة وما إلى ذلك من الأوصاف الأمنية المعروفة في قاموس صحافي الشرطة وكتاب الأمن داخل الصحافة القومية وخارجها، ولم نسمع من العلمانيين تعليقا على هذا التمرد أو وصفا له بالظلامية والدعوة إلى دولة مسيحية دينية كما يصفون الإسلاميين في كتاباتهم، الأدهى والأمر أن السلطة نفسها والنظام ذاته تغاضى عن فعل الكنيسة وكافأها على تمردها بتفعيل المادة الثانية من الدستور وهى المادة التى جمدها النظام واجتهدت الكنيسة كثيرا بالطعن فيها ومحاولة تغييرها باعتبارها تكرس الانقسام والفرز الطائفي، ولنا أن نتخيل مثلا أن مؤسسة دينية كالأزهر رفض حكما لمحكمة بفوائد البنوك بحجة أنها تصادم المادة الثانية من الدستور كيف يكون الحال ؟ ساعتها ستخرج علينا كل أجهزة النظام لتعطيه درسا في التطور والتقدم وضرورة الخروج من كهوف التخلف والكف عن الجمود والتحرر من عقلية البدو ورعاة الإبل، أما إذا كان هذا الحكم يتصل بشأن من شؤون النساء فساعتها سيندب الرجال والنساء معا وستنعى صحافتنا الحرة المستقلة الإسلام كله بمؤسساته التى لا تتماشى مع روح العصر ولا تستجيب لحاجات الناس وتعيش في عزلة عن الزمان والمكان والدنيا،
الواقعة الثانية
كارثة الشاب خالد سعيد
كارثة الشاب خالد سعيد ليست جديدة وإنما هى حلقة في سلسة من المعاناة التى يعيشها الفقراء والكادحون ومن لا ظهر لهم ولا مال لديهم ليشتروا به ذمم البعض وضمائرهم وما أكثرها في اسواق النخاسة والتزوير وتلفيق التهم للأبرياء وبراءة المفسدين إذا تعرضوا لمساءلة أو محاكمة من باب ذر الرماد في العيون ، والقضية بقدر ما تحمل من مأساة بقدر ما تكررت من قبل وذهب الضحايا دون أن تنعيهم بواكي بينما الجناة نعموا بمكافآت وترقيات وشهادات تقدير حتى ولو كانت جرائمهم ضد الشرفاء من بعض رجال القضاء.
في القضية الجديدة لا عبرة بهتاف الجماهير ولا بالتظاهرات ولا بأنات أهل الفقيد ولا حتى بشهادة من رأوا الضحية يقتل في الشارع وفى وضح النهار، فكل هؤلاء لا قيمة لهم وما يصدر عنهم هو عبارة عن عاصفة في فنجان وانتهى الأمر ، ويكفى بيان واحد يصاغ بدقة في التزوير وقلب الحقائق فتتلقفه صحافتهم لتلوث به تاريخ شاب مكافح فتسخر منه وهو بين يدى ربه بشكل فج وممجوج ، ثم يأتى تقرير الطب الشرعى ليؤكد ما صرح به همام الداخلية وليثبت أن الشرطة فى هذه الواقعة بالذات كانت في خدمة الشعب وأنها دائما على استعداد لتحمل كل التضحيات حتى توصله إلى مثواه الأخير، وهذا ما فعلته مع الشاب الفقيد خالد سعيد، هكذا وبلا خجل
وتتوالى أحداث القضية، والحكومة وحزبها الحاكم وكل المسئولين فيها لم يحركوا ساكنا ولم ينطقوا ببنت شفه وكأن أحداث القضية قد وقعت في المريخ . وسكت النظام كالعادة، ألم يطالب أحد نواب الحزب الغضنفر قوات الداخلية بإطلاق الرصاص على المطالبين بحقوقهم أمام مجلس الشعب ؟ فلم العجب إذن في هذا السكوت ؟
غيرأن الرياح قد جاءت هذه المرة بما لايشتهى النظام والحزب والحكومة ، فالدنيا قد ضجت وتحركت منظمات حقوقية ومنظمات مدنية دولية وأصدر الاتحاد الأروبي بيانه المعروف ثم أعربت الخارجية الأمريكية عن قلقها تجاه ما يحدث من انتهاك لحقوق الإنسان، عندها فقط بدأ البحث عن ضحية لإنهاء الضجة والخلاص من هذا الصداع، الرقيب فلان والجاويش فلان هم من ارتكب الجريمة.
حسنا ، وهل تصرف هؤلاء من رأسهم أم أنهم يتحركون بأوامر ؟ وهل كانوا يتجرأون على فهل ما فعلوه لولا شعورهم بأنهم دائما فوق القانون ؟ وأن سادتهم ورؤساءهم لن يسلموهم لشئ ولو كانت إرادة القانون ، ومن ثم كانت المحاولات المستمرة في طرمخة القضية بأساليب متعددة بحثا عن غطاء من التزوير يحمى الجناة ويدين الضحية .
ثم كانت المفاجأة التى لم يتعود الناس عليها أبدا ولم نسمعها من قبل أن لجنة السياسات أصبحت تصرح بأن العدالة لابد أن تأخذ مجراها في قضية خالد سعيد وان الحزب الوطنى لا يقبل بانتهاك حقوق الإنسان.
ونحن طبعا لا نشكك في صدق التصريح ولا في نوايا من أطلقوه ،فقد يكون نجل الرئيس السيد جمال مبارك صادقا ويعمل من أجل تحقيق العدالة ،غير أن المحللين وأغلب الناس يرون أن التصريح جاء باهتا وقد جاء بعد فوات الأوان ولا يحمل غير دلالة واحدة في نظر هؤلاء وهى: أن التحرك لم يأت استجابة لرغبات الجماهير الغاضبة ولم يكن ترضية لأهل القتيل بل ولا حتى نزولا على رغبة المستشارين لكسب ثقة الجماهير في مثل تلك المحن كما أشار الصحفي النابه الأستاذ جمال سلطان في مقال سابق، وإنما جاء تماهيا مع ما صدر عن الخارجية الأمريكية والاتحاد الأوروبي ،ويقدم هؤلاء حجة على ما يقولون بحالات الظلم الفادح الذى تفوح روائحها القبيحة في كل مكان فهل تتحرك لجنة السياسات ومعها الحزب الذى لا يقبل بانتهاك حقوق الإنسان لنصرة هؤلاء ورفع الضيم عنهم ، إن كانوا جادين فليذهبوا إلى ضواحى حلوان وعشوائيات الدويقة وطرب الخفير ومجاهيل المطرية والزاوية الحمراء ومنطقة الرشاح وغير ذلك من الأماكن التى يعيش أهلها عيشة لا يقبها حتى الحيوانات.
وتستدعى الذاكرة على عجل تلك الحكمة العمرية في سياسة الناس حين قال عمر بن الخطاب لولاته " ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ، ولا تجمروهم فتفتنوهم1، ولا تنزلوهم الحياض فتهلكوهم2 ،ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم "
رحم الله عمر ابن الخطاب وآجرنا في خالد سعيد ورفاقه ومن سبقوه ومن سيلحقون به وكل مصاب أمتنا خيرا .