د. إبراهيم أبو محمد | 30-05-2010 01:03
الانفصام الفكري الذي تعيشه مجتمعاتنا المسلمة في عصرها الراهن على مستوى العقل الجمعي، تسبب في حالة من التراجع الحضاري، اختلط فيها حلم النهضة الغائب والمستكن في أعماقها، بضباب الرؤية، وانفصل فيها الواقع المنسحب عن قمة أمجاد الآباء الكبار فاصطدمت طموحات المنى في التصور والفكر، بأعلى تجليات الخلل في الواقع المحسوس، الأمر الذي أفرز حالة من التقوقع على الذات والانكفاء على الماضي، وإن كان مجيدًا وعظيمًا، فلم تستطع الأماني وأحلام النهار أن تعفينا نحن المسلمين من دفع ضريبة الغياب عن الحاضر، وهي فاتورة تكاليفها باهظة وطعمها علقم وكان بعض ثمنها حالات التراجع الحضاري والانحطاط الفكري التى أصابت الأمة بالتميع وفقدان الهوية، وأحدثت الكثير من الفوضى والخلل في حياة المسلمين حيث اضطربت القيم واختلت المعايير واعتلت الأفكار والتصورات والرؤى ، وتحولت النخب الثقافية لدينا في الداخل من عين على السلطة إلى عيون للسلطة وفي الخارج إلى أسرى وموالى لفكر الكاوبوى وثقافة العم سام. وكانت النتيجة هي التخلف والتمزق وضياع الوحدة الشعورية، الأمر الذي عرَّض الأمة للتآكل الذاتي من داخلها وفتح باب الاختراق والسيطرة من الخارج، فانحلت العرى وانفرط العقد، وبدأت الهوية في الذوبان؛ ليتحول المجتمع بعد ذلك إلى قطيع من البشر ليس له لون ولا طعم ولا رائحة.
ومن ثم أصبحت مجتمعاتنا ذات التاريخ المشرق والعريض أمام هذا السيل من الفوضى في حاجة إلى ما يسمى برد الاعتبار في لغة القانون.
ورد الاعتبار هنا معنى يتجاوز حدود الكلمات في مدلولها اللفظي، ليشكل مساحة من الحركة القائمة على الإدراك الواعى لدورنا نحن المسلمين ورسالتنا، تنطلق فيها المؤسسات العامة والخاصة صوب التغيير والإقلاع الحضاري وفق رؤية تؤسس لمنهج وتؤصل لمصطلح وتنظر لأيديولوجية جديدة، تراعي متغيرات العصر ومصالح الناس، وفي ذات الوقت تعمل على توفير وحماية الضمانات اللازمة لبقاء مجتمعاتنا داخل الدائرة الإسلامية، وبقاء أفرادها على خط الإسلام الصحيح المستقيم.
وإذا كان الخلل في معايير القيم وزنا وحجما وموقعا يسبب اضطرابا وتراجعا فإنه من الضرورى ألا تتجاوز كل قيمة قدرها وحجمها ومكانها ومكانتها في المنظومة التشريعية العظيمة، ولقد كان سلفنا الصالح مدركا لهذه الحقيقة واعيًا بقضية الترتيب وكان عمدتهم وأساسهم الذي اعتمدوه ومعيارهم هو القرآن والسنة.
إن تجديد فهم الدين من الأهمية بمكان لتصحيح التصور واستدعاء قيم الرشد التى كانت سببا في الإقلاع الحضارى وإعادة صياغة العقل والوجدان وترتيب الأولولويات التى غابت.. وهذا هو المفتاح والدليل إذا أردنا أن نسلك الطريق إلى عالم جديد تتوازن فيه منظومة القيم بين المطلق والنسبي والثابت والمتغير، وما هو من عالم الأشياء وما هو من عالم الأفكار والمعاني.
إن الاستجابة للتحدي لابد أن تنطلق من رؤيتنا نحن، وبعيوننا نحن، ووفق ثوابتنا نحن، ثم لابد أن تكون تلك الاستجابة محسوبة بما نملك فعلا، لا بما نتمنى أن نملك.
وإذا كان بعضنا يجد في البحث لطلب العافية لأمتنا ويستنهض همة النخبة من الباحثين؛ ليساهموا في نهضة ثقافية تحاول نفض السبات عن الأمة بصياغة مشروع ثقافي من النوع الثقيل وإنهاء الغيبوبة التي طال ليلها، وذلك مطلب يشكل أمنية وحلمًا استطابته قلوب المخلصين، ولطالما دعت إليه أقلامهم، فإن على العلماء أن يحددوا أولا موقفهم من تلك العشوائيات الثقافية والفكرية التي تملأ الساحة وتساعد في استمرار غيبوبة الأمة، وتصب على عقول الأفراد سيلا من المخدرات الثقافية التي تدغدغ غرائز الفرد وتفصله عن واقعه المرير، وتجعله يعيش معزولا عن الزمان والمكان، مفصولا عن تاريخه وتراثه.
نقطة البدء هنا تبدأ بتنظيف الحقل الذي اختلط حابله بنابله، وذابت فيه النائحة الثكلى بالنائحة المستأجرة؛ لذلك فقد وجب التخلص من تلك العشوائيات أولا؛ ليكون البناء على قاعدة صحيحة ومن خلال منطلق صحيح.
ثانيا: لابد أن يبدأ هذا الفكر وهذا المشروع من رصيدنا نحن، وذلك يتطلب المصالحة مع الذات الفكرية والثقافية وإنهاء القطيعة بيننا وبين تراثنا.
ثالثا: العودة إلى الذات تتطلب قدرًا من الثقة تزول معها حالة الالتباس بين الثوابت والمتغيرات من ذلك التراث، وتتضح بها الفروق بين الوحي المعصوم قرآنًا وسنة، وبين المخزون الفكري والثقافي لعلمائنا، على أن يتم التعامل معه بقدر كبير من الاحترام والتقدير، وبعيدًا عن القداسة والعصمة التي لم تثبت لغير القرآن والسنة.
وفي هذا الصدد لن ننطلق من فراغ، فبرغم الضعف والسبات المصحوب بحالات التخلف والعجز والتبعية الممقوتة -فلسنا أمة لا جذور لها تقف في مهب الريح؛ إنما نحن أمة لديها رصيد ضخم وعظيم، حرَّك الدنيا وغيَّر التاريخ، وأعاد للوجود رشده وحرارة الحياة، وهذا الرصيد الملزم لا يمنعنا من الاستفادة من تجارب الآخرين وحكمتهم، ولا يحول بيننا وبين النظر في معطيات الحاضر والأخذ منه، كما أنه يشكل بالنسبة للتراث الإنساني بعمومه أعلى وأغلى وأغنى راسمال.
وفى هذا الرصيد الضخم منظومة من القيم تتسع دوائرها وحلقاتها لتشمل كل ميدان في الحياة، كما يتسع تأثيرها ليصل لكل فرد
• رئيس مجلس إدارة المؤسسة الأسترالية للثقافة الإسلامية - أستراليا