* الوسطية منهاج الإسلام:
ولأن هذه الوسطية الجامعة بهذا المعنى، هي منهاج الإسلام في الحياة، بمختلف ميادين الحياة الفردية والاجتماعية؛ فإن العقل المسلم يستطيع أن يفقهها ويطبقها في سائر الميادين:
- فـ"الكرم" وهو خلق وسلوك وسط ليس غريبا تماما عن القطبين النقيضين: "الشحّ" و"الإسراف"، وإنما هو جامع منهما سمات هذا الكرم ومكوناته، جامع لقدر من "التدبير والاقتصاد" ولقدر من "البذل والعطاء"، ففيه اجتماع لعناصر الحق والعدل من القطبين المتناقضين.
- وكذلك "الشجاعة" نجدها وسطا بين "الجبن" و"التهور"، لكنها جامعة بين مقادير من "حذر" الجبان، ومقادير من "إقدام" المتهور، فلا هي منحازة لأحد النقيضين، ولا هي مغايرة كل المغايرة لهما معا.
- وفي فلسفة الإسلام في الاقتصاد والثروات والأموال، نجد "الاستخلاف" وسطا بين "الحرية المطلقة" في الأموال، وبين الإلغاء الكامل للحرية في الأموال. فالإنسان مالك وحر ومستثمر ومنفق ومستمتع، لكن كوكيل وخليفة في الملكية الاجتماعية عن المالك الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى. فكل حقوق الإنسان في الثروات والأموال محكومة بحقوق الله وفرائضه في التوازن والتكافل بين الأمة.
- وفي الموقف من تمايز الناس إلى طبقات اجتماعية، يقف الإسلام بوسطيته الجامعة بين الحرية المطلقة التي تثمر التفاوت الفاحش بين الطبقات، وبين "الطوباوية" التي حلت بمجتمعات لا طبقية. فطبيعي وضروري -بناء على تفاوت الطاقات والهمم والجهود- أن يتمايز الناس في المكاسب والحظوظ، لكن الوسطية تفرض وقوف هذا التمايز عند حدود التوازن والتكافل، الذي يجعل الأمة جسداً واحد، تتكافل أعضاؤه، مع تفاوت الأهمية والعطاء والحاجات لكل عضو من هذه الأعضاء.
وبعبارة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في عهده إلى واليه على مصر "الأشتر النخعي": "واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض".(1 )
- وفي الموقف من العلاقات بين الحضارات تقدم الوسطية الإسلامية منهاج "التفاعل" الذي هو وسط بين غلو في "الانغلاق والعزلة"، و"التبعية والتقليد". ففي "التفاعل" استلهام لكل ما هو مشترك إنساني عام، مع التمايز في الخصوصيات المتعلقة بالهويات العقدية والثقافية.
- كما تقدم الوسطية الإسلامية منهاج "التدافع" عندما يختل التوازن في العلاقات بين الحضارات وكذلك الطبقات، لأن هذا "التدافع" هو متن وسط، يمثل الحراك الاجتماعي الذي يزيل الخلل، ويعيد العلاقات إلى مستوى التوازن والعدل، مع الحفاظ على تعدد وتنوع وتمايز الفرقاء المختلفين. فهو "التدافع" وسط بين "السكون" الذي ينـزل الخلل ليستفحل، وبين "الصراع" الذي يصرع فيه القوي الضعيف، فينهي التعددية والتمايز والاختلاف.
لقد رفض القرآن منهاج "الصراع" لأنه يزيل سنة التعددية (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ)(الحاقة:7-
بينما "التدافع" حراك يعدل المواقف، مع المحافظة على التعدد والتنوع والاختلاف: (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34).
تلك هي الوسطية الإسلامية الجامعة، صبغة الله التي أرادها لأمة الإسلام، والفطرة الإسلامية المطهرة من العوارض والآفات، وعدسة الرؤية اللاّمة لقسمات المنهج الإسلامي ومعالم تصوره في "الفكر" و"الحياة". وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)(البقرة:143). وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: "الوسط: العدل، جعلناكم أمة وسطا".
الهوامش
1 ــ "نهج البلاغة" ص 337 - بشرح الإمام محمد عبده. وتحقيق وتعليق: محمد أحمد عاشور، محمد ابراهيم البنا. طبعة دار الشعب / القاهرة.
* المصدر: مجلة (حراء) الإلكترونية ، العدد: 2 (يناير-مارس) 2006