حكم الاجتهاد ومراتبه
والاجتهاد قد يكون فرض عين، وقد يكون فرض كفاية، وقد يكون مندوبا، وذلك وفق مقام الاجتهاد والحاجة إليه والحكم الذي يستنبطه المجتهد بالاجتهاد، وتعلُّق هذا الحكم بذات المجتهد أو بالآخرين.
وميدانه ما ليس معلوما من الدين بالضرورة، مما اتفقت عليه الأمة من الشرع الجلي الذي ثبت بالنصوص قطعية الدلالة والثبوت. أما مراتب المجتهدين فإنها ثلاثة:
الأولى: رتبة المجتهد المطلق؛ وهو الذي "يستنبط" الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة.
الثانية: رتبة مجتهد المذهب؛ وهو من "يستنبط" الأحكام من "قواعد" إمام مذهبه.
الثالثة: رتبة مجتهد الفتوى؛ وهو المقتدر على "الترجيح" في "أقوال" إمام مذهبه.
والذي جرى عليه الرأي في مبحث الاجتهاد -في الحضارة الإسلامية- هو عدم خلو العصر -كل عصر- ممن ينهض بأداء فريضة الاجتهاد. وللإمام جلال الدين السيوطي كتاب جعل عنوانه: "الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض" قال في مقدمته: "إن الناس قد غلب عليهم الجهل وعمهم، وأعماهم حب العناد وأصمهم، واستعظموا دعوى الاجتهاد، وعدّوه منكرا بين العباد، ولم يشعر هؤلاء الجهلة أن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات في كل عصر، وواجب على أهل كل زمان أن يقوم به طائفة في كل قطر".
الاجتهاد الجماعي
لكن الذي حدث للاجتهاد عبر مسيرتنا الحضارية، أن ميادين من إبداع العقل الإسلامي في الفكر الإسلامي قد أصابها الجدب، فأصيبت ثمراتها بالذبول. فمنذ الانقلاب الأموي على فلسفة الشورى ضمرت إبداعات الأمة واجتهاداتها في الفقه الدستوري والفكر السياسي الذي يحدد أطر وضوابط علاقة الحاكم بالمحكوم؛ على حين نمت وازدهرت إبداعات الفكر واجتهاداته في الميادين الأخرى.
فلما طال الأمد بالخطر الخارجي تتاريا وصلِيبيا، وطال الأمر بدول العسكر المماليك، التي مثلت فروسية العصر اللازمة للدفاع عن وجود الأمة والحضارة إزاء هذا الخطر الخارجي، وجلب المماليك شريعة مواطنهم الأصلية "ياسة" جنكيز خان فجعلوها قانون العسكر (أي الطبقة الحاكمة) والدواوين السلطانية (أي دوائر الدولة) تراجعت مكانة "فقه المعاملات" الإسلامي، فذبل، ثم توقف الإبداع والاجتهاد فيه، وهذا هو الذي أدى إلى ما يسميه البعض إغلاق باب الاجتهاد، حتى جاء عصرنا الحديث ولدينا ثراء وغنى في "فقه العبادات" والشعائر الدينية، يصاحبه فقر شديد في "فقه المعاملات" و"الفكر السياسي" اللازم لمواكبة الواقع الجديد والمستحدثات من الأمور.
الأمر الذي يبرز حاجتنا الماسة إلى تنشيط الاجتهاد في "فقه الواقع" السياسي والاقتصادي والاجتماعي ليتسنى لأصول شريعتنا الفروع التي تظلل وتحكم وتصبغ بالإسلام هذا الواقع الجديد.
وربما مع تعقُّد شؤون الواقع الجديد، وتشعُّب علوم الشريعة والحضارة إلى تخصصات كثيرة ودقيقة، كانت الحاجة إلى "الاجتهاد الجماعي" كالشكل الأنسب للعصر الذي نعيش فيه.