صور من مزاحه صلى الله عليه وسلم
عن الحسن رضي الله عنه: أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألته أن يدعو الله لها بالجنة، فقال: "لا يدخل الجنة عجوز". فبكت، فقال: "إنك لست بعجوز يومئذ"، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا﴾(الواقعة:35-37)" (رواه الترمذي).
وعن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: إن امرأة يقال لها أم أيمن، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي يدعوك. فقال لها: "من هو؟ أهو الذي في عينه بياض؟" قالت: والله ما بعينه بياض. فقال: "بلى، إن بعينه بياضا". قالت: لا، والله. فقال: "ما من أحد إلا وبعينه بياض" (ذكره الزبير بن بكار). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني حاملك على ولد الناقة". فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهل تلد الإبل إلا النوق" (رواه الترمذي). ومن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: كان لأبي طلحة ابن يقال له أبو عمير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيهم ويقول: "يا أبا عمير، ما فعل النُّغَيْز؟"، -والنُّغَيْز: فرخ العصفور، كان يلعب به الغلام-. (متفق عليه).
ومن رواية زيد بن أسلم رضي الله عنه، عن خوات بن جبير الأنصاري، أن خوات كان جالسا إلى نسوة من بني كعب بطريق مكة، فطلع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أبا عبد الله، ما لك مع النسوة؟!". فقال: يفتلن ضفيرا لجمل لي شرود. قال: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته ثم عاد فقال: "يا أبا عبد الله، أما ترك ذلك الجمل الشَّرَّاد بعد؟!" قال: فسكتُّ واستحييتُ. وكنتُ بعد ذلك أتَفَرَّرُ منه كلما رأيته حياء منه، حتى قدمتُ المدينة، فرآني في المسجد يوما أصلي، فجلس إليّ فطوَّلتُ، فقال: "لا تُطَوِّل، فإني أنتظرك".. فلما سلَّمتُ قال: "يا أبا عبد الله، أما ترك ذلك الجمل الشِّراك بعد؟!". فقلت: والذي بعثك بالحق ما شرد منذ أسلمت. فقال: "الله أكبر، ألله أكبر، اللهم اهد أبا عبد الله". قال -الراوي- فحسن إسلامه وهداه الله" (رواه الطبراني).
وروي أن نعيمان الأنصاري رضي الله عنه كان رجلا مزَّاحا، وكان لا يدخل المدينة رسل ولا طُرفة إلا اشترى منها، ثم أتى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله، هذا قد اشتريته لك، وأهديته لك. فإذا جاء صاحبها يتقاضاه الثمن، جاء له إلى النبي، وقال: يا رسول الله، أعطه ثمن متاعه. فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألم تهده لنا؟!". فيقول: يا رسول الله، إنه لم يكن عندي ثمنه، وأحببت أن تأكل منه. فيضحك النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر لصاحبه بثمنه" (ذكره الزبير بن بكار وابن عبد البر). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الأقرع بن حابس رضي الله عنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاعب ويداعب الحسن بن علي رضي الله عنهما فيريه لسانه ويقبله، فكأنما استغرب الأقرع بن حابس ذلك من رسول الله فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلتُ واحداً منهن، فقال صلى الله عليه وسلم: "من لا يرحم لا يُرحم" (رواه مسلم).
تلك نماذج وإشارات من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصفاته وشمائله، ومن سنته القولية والفعلية مع أهله، ومع صحابته -من الرجال والنساء- شاهدة على البعد الأصيل في المنهاج النبوي، والذي يجهله أو يتجاهله الكثيرون، وذلك عندما يحسبون الإسلام خشونة وتجهما، وعندما يريدون من النموذج الإسلامي ومن رجالات العلم الديني أن يكونوا نماذج للصرامة والتخويف، غافلين -أو متغافلين - عن الصورة القرآنية لنموذج القدوة والأسوة: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾(آل عمران:159)، بل وحتى مع الأعداء، أمر الله سبحانه وتعالى صاحب الخلق العظيم برفق التدافع مع هؤلاء الأعداء -ناهيا عن عنف الصراع- لأن هذا المنهاج هو السبيل لتأليف القلوب وإحداث التحولات في هذه القلوب ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّـئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾(المؤمنون:96)، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّـئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(فصلت:33-34).
لقد كان صلى الله عليه وسلم نموذجا للإنسان الكامل، العابد المتبتل، والفارس المقاتل، والرحيم الرفيق، والغاضب لحرمات الله وحدود الله، والباشّ المداعب والمفاكه لأهله وأصحابه بالمُلح والطرائف والنكات، وصولا إلى مفاتيح القلوب، وفقه النفوس والعقول، لتحقيق سعادة الإنسان في هذه الحياة وفيما وراء هذه الحياة.
ففي البشاشة والدعابة والمزاح والملح والطرائف -إذا استقامت وأعانت على تهذيب القلوب وتجديد الملكات وتأليف النفوس- رحمة يكتبها الرحمن في حسنات الرُّحماء.
___________________
المصادر
(1) إسلامية المعرفة.. ماذا تعني؟ للدكتور محمد عمارة، دار المعارف، القاهرة 1999م.
(2) الكليات، لأبي البقاء الكفوي، تحقيق: د. عدنان درويش، محمد المصري، دمشق 1982م.
(3) إعلام الموقعين، لابن القيم، بيروت 1983م.
(4) المصطلحات الاقتصادية في الحضارة الإسلامية، للدكتور محمد عمارة ، دار الشروق، القاهرة 1993م.
(5) معالم المنهج الإسلامي، للدكتور محمد عمارة، دار الرشاد، القاهرة 1997م.
(6) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة 1993م.
(7) الإسلام والفنون الجميلة، للدكتور محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة 1991م.
( الغناء والموسيقى حلال أم حرام، للدكتور محمد عمارة، دار نهضة مصر، القاهرة 1999م. (9) لسان العرب، لابن منظور، دار المعارف، القاهرة 1981م.
(10) أساس البلاغة، لمحمود الزمخشري.
(11) قاموس المنجد، للويس معلوف، بيروت 1986م.
(12) إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، طبعة مصورة، دار الشعب القاهرة. ولقد خرج العراقي ما أورده الغزالي من أحاديث في هذا الجانب –جانب الدعابة والملح والطرائف والنكات- من سنة وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكتابه "المغني عن حمل الأسفار في الأسفار، في تخريج ما في الإحياء من الأخبار" مطبوع بهامش هذه الطبعة من الإحياء.
(13) الرحيق المختوم، لصفي الرحمن المباركفوري، دار الوفاء، مصر، 1999م.
____________