طغيان المادة علي قيم الحق
بقلم الشيخ:محمد الغزالي
رحمه الله
لا يختلف أحد مع نفسه أن العصر الذي نعيش فيه عصر طغيان المادة واستحكام أمرها وسيطرة نوازعها الطيبة والخبيثة علي تقاليد الحياة وقوانينها. ونعني بالمادة تغليب البدن علي الروح وتغليب الدنيا علي الآخرة أو بتعبير أصرح : جحود ما وراء عالمنا المحسوس من حياة أخري في يومنا القريب أو في غدنا البعيد وإطراح الأديان باعتبارها أفكارا تبدي وتعيد حول هذه المعاني وإن كان لا بأس من قبول الأديان من حيث كونها وصايا خلقية ونصائح شخصية ومسكنات اجتماعية . أما الإيمان بالله إيمانا ينطوي علي الجد والتوقير والملاحظة ويرتقي إلي مصاف المسائل التي تهتم بها الدول وتعقد لها المؤتمرات علي نحو ما نسمع به ونقرأ عنه فلا.. وأما الإيمان باليوم الآخر إيمانا يقذف في النفوس أن العمران البشري إلي انقراض وأن النشاط الإنساني منقلب لا محالة يوما إلي حساب دقيق ونقد عميق كما يقول الشاعر: فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأي عنك واسع! فهذا أيضا لا يكترث العالم به ولا يستعد له بل لعله شيء يهزأ به ويسخر من أصحابه... والأديان برغم ما يزعم لها من منزلة تقليدية أقصيت تماما عن مراكز التوجيه الأعلي للإنسان. والدنيا الآن تسير بقوة جارفة إلي غير غاية وهي مشغولة أعظم الشغل بالوقود الذي تستهلكه في هذا السير من غذاء وكساء ومتاع وشهوة وذهب وفضة وما يستتبعه الحصول علي هذا الوقود من خصام وسلام واغتيال واحتيال وانقسام وانسجام. وهذا هو عمل الدول قديما وحديثا في عصبة الأمم ومجلس الأمن . وقد سخر العلم تسخيرا ناجحا في هذه الافاق كلها ويوشك أن تأخذ الأرض زخرفها وتزدان ويظن أهلها أنهم قادرون عليها .. ثم ماذا بعد ذلك؟. إن الأفئدة لما فرغت من الإيمان بالله واليوم الآخر امتلأت إيمانا بأمور أخري اختلقتها اختلاقا. فالحقيقة كما يقول العلامة ¢هاري أرسون ¢ في كتابه كيف تكون رجلا حقا؟ ¢: إنه ما من إنسان يستطيع أن يكون غير مؤمن فقد ركب الإنسان من الناحية النفسانية بحيث أصبح مضطرا إلي الإيمان بالله أو بغيره . ومتي مات الإيمان الإيجابي فإن الإيمان السلبي يحل محله. يتعلق بالمستحيلات أكثر من الممكنات وبالآراء التي تجعل منا ضحايا للحياة لا سادة لها وبالفلسفات التي تدفعنا إلي مثل الحالة النفسية التي كان رابليه يجود فيها بأنفاسه وهو يقول : اسدلوا الستار فقد انتهي تمثيل المهزلة وهذا صحيح فالإنسان إن لم يعبد الله عبد غيره ولن يتحرر ألبتة من العبودية ما: ¢إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا ¢ وفي التدليل علي هذه الحقيقة يذكر المؤلف أن صديقا ل برجنيف كتب إليه يوما لشيء : ¢يبدو لي أن وضع الإنسان نفسه في المحل الثاني هو كل مغزي الحياة. فأجابه قائلا : يبدو لي أن اهتداء المرء إلي ما يقدمه علي نفسه ويضعه في المحل الأول هو كل مشكلة الحياة .. فالذي يقدمه الإنسان علي نفسه كائنا ما كان هو ما يؤمن به. ومتي بذل الإنسان إيمانه من قلبه فقد شد زناد النشاط الإنساني¢ . ونحن نأسف لأن الأجيال الحاضرة ضلت سبيل الإيمان الصحيح واستنفدت قواها في باطل بعد باطل.