مفاهيم
الاستعمار الاستيطاني
بقلم:د. محمد عمارة
من مظاهر العبقرية السياسية للشيخ محمد رشيد رضا[1282 ـ1354 هـ1865 ـ1935 م] ـ صاحب[ المنار] ـ وتلميذ الامام محمد عبده[1265 ـ1323 هـ1849 ـ1905 م] وناشر فكر مدرسة الاحياء والتجديد عبر العالم الاسلامي علي امتداد أربعين عاما.. من مظاهر هذه العبقرية تنبيهه علي تفوق الاستعمار الاستيطاني الصهيوني علي الاستعمار التقليدي الذي ابتليت به أغلب بلاد الاسلام.. فالاستعمار التقليدي يسلب الناس السلطة والحكم والدولة.. لكن تبقي لهم ملكية الأرض والوطن.. أما الاستعمار الاستيطاني فهو يسلب ضحاياه ملكية الأرض والوطن مع ملك السلطة والدولة جميعا!.. ولذلك, فإن التحرر من الاستعمار الاستيطاني أصعب بمراحل كثيرة من التحرر من الاستعمار التقليدي. فإمكانات التحرير لدي الشعب الذي يكافح وهو واقف علي أرضه أكبر بكثير من امكانات الذين سلبت منهم الأرض مع السلطة, فأخرجوا من ديارهم التي كانوا لها مالكين وفيها يعيشون!
نعم.. لقد تجلت العبقرية السياسية للشيخ رشيد رضا, في ادراكه هذه الحقائق.. وكانت الفتوي التي أصدرها1933 م بتحريم بيع العرب أرض فلسطين لليهود, لأن هذا البيع خيانة وطنية تفوق خيانة التعاون مع جيوش الأعداء الغزاة!.. كانت هذه الفتوي وثيقة سياسية ودينية بالغة الأهمية.. وصالحة للاستلهام.. بل واجبة الدراسة والتدريس في مدارسنا وجامعاتنا الدينية والمدنية علي حد سواء!
لقد أرسل محمد يعقوب الغصين رئيس اللجنة التنفيذية لمؤتمر الشبان العرب بفلسطين ـ سؤالا إلي صاحب[ المنار] الشيخ رشيد رضا, يسأل عن حكم الشرع فيمن يساعد اليهود علي امتلاك فلسطين ببيع أرضها.. فكانت فتوي الشيخ رشيد, التي حذر فيها من المخطط الصهيوني للاستيلاء علي فلسطين بالمال.. والسيطرة علي مرافقها الاقتصادية.. وتشريد سكانها, واجلائهم عن بلادهم.. لتصبح فلسطين المقدسة يهودية..
ولأن هذه الفتوي هي وثيقة دينية وسياسية تعبر عن ثوابت الموقف الاسلامي من كل ذرة من ذرات أرض فلسطين.. فإن اعادة نشرها هي فريضة دائمة, يجب ألا تغيب عن العقل المسلم في يوم من الأيام..
لقد قال الشيخ رشيد رضا في هذه الفتوي:
بسم الله الرحمن الرحيم. رب آتني حكما وفهما, وعلمني من لدنك علما. أما بعد. فإن حكم الاسلام في عمل الانكليز واليهود والصهيونيين في فلسطين حكم قوم من أهل الحرب أغاروا علي وطن من دار الاسلام فاستولوا عليه بالقوة, واستبدوا بأمر الملك فيه, وشرعوا في انتزاع رقبة أرضه من أهله بتدابير منظمة ليسلبوهم الملك ـ[ بكسر الميم] ـ كما سلبوهم الملك ـ[ بضمها]..
وحكم من يساعدهم علي عملهم هذا[ امتلاك الأرض] بأي نوع من أنواع المساعدة وأية صورة من صورها الرسمية( كالبيع) وغير الرسمية( كالترغيب) حكم الخائن لأمته وملته, العدو لله ولرسوله وللمؤمنين, الموالي لأعدائهم وخصومهم في ملكهم وملكهم, لا فرق بينه وبين المجاهد معهم للمسلمين بماله ونفسه.
فالذي يبيع أرضه للحركة الصهيونية, والذي يسعي في شراء أرض غيره لهم من سمسار وغيره كالذي يساعد أي قوم من الأجانب علي قومه فيما يحاولون فتح بلادهم بالسيف والنار وامتلاك أوطانهم, بل أقول, ولا أخاف في الله لومة لائم, ولا ايذاء ظالم: إن هذا النوع من فتح الأجنبي لدار الاسلام هو شر من كل ما سبقه من أمثاله من الفتوح الحربية السياسية والدينية علي اختلاف أسمائها في هذا العصر, لأنه سلب لحق أهل الوطن في ملك بلادهم وحكمها, ولحقهم في ملك أرضها لأجل طردهم منها.