بين النكسة وانتصار أكتوبر بقلم: د. جابر قميحة
الجمع بين النكسة التي حلت بنا في 5 يونيو 1967م، وبين انتصارنا الباهر في السادس من أكتوبر سنة 1973م.. قد يبدو غريبًا عجيبًا لسبب واضح، وهو أنه جمع بين نقيضين.. في كل شيء.. في المقدمات.. والآليات.. والنتائج، والآثار العسكرية والسياسية والنفسية، ولكن هذا لا يمنعنا من تناول الموضوع بواقعية وصراحة: لقد كانت هذه النكسة بل النكبة نتيجة طبيعية لعوامل وأخطاء وحماقات متعددة، دون دراسة سابقة واعية، والتعلم من كل أولئك؛ قادنا إلى نصر أكتوبر العظيم.
وقد كنت في مدينة الإسماعيلية أنا وأسرتي سنة 1967م، وحضرنا النكبة بكل ما فيها من كوارث، ابتداءً من الإرهاصات الأولى، وأقدِّم في السطور الآتية بعض الإشارات، بل الإلماعات الموجزة للحال التي رأيناها وعشناها:
1- ففي يوم الثلاثاء 30 من مايو 1967م:
- كانت الإسماعيلية مشحونة- بسبب الإعلام- بالحماسة والحمية والرهبة، وحاولت أن أساهم بشعري في عملية الشحن.
2- الأحد 4 من يونيو 1967م:
- كان أهم عناوين الصحف المصرية: أمريكا تحاول تجميع قوى الدول البحرية لفك الحصار البحري الذي ضربته مصر على خليج العقبة، ومضيق تيران.. وقد وافقت إنجلترا على ما تذهب إليه أمريكا.
3- الإثنين 5 من يونيو 1967م:
- كنت في بورسعيد وارتفعت البلاغات الحربية المصرية بالطائرات الصهيونية الساقطة إلى 44 طائرة، ثم سمعنا طلقات المدافع والقنابل من ناحية مطار الجميل ببورسعيد، وبور فؤاد، واستمرت البلاغات الحربية على هذه الوتيرة.. وتمكنتُ بحمد الله من الوصول إلى الإسماعيلية في الحادية عشرة مساءً، كانت الإسماعيلية تسبح في بحر من الظلام.
4- الثلاثاء 6 من يونيو 1967م:
- ومن أنباء الأعداء التي أذاعوها "في الدقيقة الخمسين بعد الثانية عشرة، وتم سقوط مدينة غزة، كما سقطت مشارف العريش".
- ثم أذاعت الإذاعة المصرية أن "قواتنا الباسلة تقاتل بشجاعة فائقة عن مواقع العريش والقسيمة وأبي عجيلة".
- وفي المساء أعلنت مصر إغلاق قناة السويس، وبعد ذلك أعلنت البلاد العربية قطع العلاقات مع أمريكا وبريطانيا.
- مجلس الأمن يجتمع الليلة ليصدر قرارًا بوقف إطلاق النار.
- كان شارع محمد علي أكبر شوارع الإسماعيلية يسبح في الظلام، ويموج بآلاف من الجنود المصريين المنسحبين، وعشرات من المصفَّحات والدبابات.
5- الأربعاء 7 من يونيو 1967م:
- في الطريق رأيت آلافًا من جنودنا المساكين العائدين من الجبهة.. كانت حالتهم يُرثى لها.
تخلَّى جيشنا عن شرم الشيخ، وتراجع إلى مواقع الخط الثاني، وهو يحاول تجميع قواته لصد التقدم الصهيوني.
- الناس هنا في الإسماعيلية يبيتون ليلة مذعورة، بعد أن أغارت طائرات الأعداء إغارات آثمة على مدينة السويس، وآلاف الناس يهاجرون منها.
- أذاعت "إذاعة الكيان الصهيوني" أن الجيش الصهيوني على بعد ثلاثين كيلومترًا من مدينة القنطرة شرق.
6- الخميس 8 من يونيو 1967م:
- في الخامسة صباحًا استيقظنا على صوت قصف فظيع.. طلقات مدافع متلاحقة، وأزيز طائرات قريبة جدًّا تخلع القلوب.
- علمنا أن الطيران الصهيوني نسف 8 تكسيات بركابها كانت تسير في طريق الصالحية.
7- الجمعة 9 من يونيو 1967م:
- في الحادية عشرة والنصف صباحًا أذاعت الإذاعة العليا للقوات المسلحة المصرية "أن قواتنا انسحبت من مواقعها إلى غرب قناة السويس، وبالرغم من أن الجمهورية العربية المتحدة أعلنت رسميًّا قبولها قرار وقف إطلاق النار إلا أن العدو ما زال يشن هجماته على قواتنا، كما قام بغارات متعددة على منطقة القنال، وما زالت الغارات والقتال قائمين حتى هذه اللحظة".
- الإشاعات قوية بأن مدينة الإسماعيلية معرضة للسقوط في أيدي الأعداء بين لحظة وأخرى.
- أمطرت طائرات العدو على مدافعنا المضادة وابلاً من القنابل الحارقة، فلجأ الجنود وأطقم المدافع إلى مصنع الصباغة، فضربت الطائرات أجزاء منه، ما ترتب عليه مقتل كثيرين.
- ثم كان ما هو معروف في السابعة والنصف مساءً من تقدم عبد الناصر باستقالته، وما توالى بعد ذلك من أحداث.
8- الإثنين 12 من يونية 1967م:
- نشرت صحيفة (الأهرام) القاهرية اليوم خبر تغييرات شاملة في قيادة القوات المسلحة، ومنها تعيين الفريق أول محمد فوزي قائدًا عامًّا للقوات المسلحة، والفريق أول مدكور أبو العز قائدًا للقوات الجوية.
- هاجر أكثر من 90% من أهل الإسماعيلية، ومن النادر أن تجد امرأة أو طفلاً إلا في طريق الهجرة.
يا الله لقد شاء الله أن أرى في حياتي أقسى وأمر ما يمكن أن أراه.. أرى من وصفهم الله بالخسة، وكتب عليهم الذلة والمسكنة، أراهم يحتلون فلذات من كبد الوطن الحبيب، وسرحت بعيني الكسيرتين بعيدًا، أستشف ما وراء الأفق الدامي، وما وراء الحاضر الحزين الباكي.
من النكبة إلى النصر:
تُوفي عبد الناصر- غفر الله له- وتولى السادات رئاسة الجمهورية سنة 1971م، وأفادت مصر من النكبة فلجأت إلى ما يسمى اصطلاحيًّا (حرب الاستنزاف)، ومن أبطال هذه الحرب الشهيد الفريق أول عبد المنعم رياض، "ففي صبيحة يوم (الأحد 9 مارس 1969م) قرَّر عبد المنعم رياض أن يتوجه بنفسه إلى الجبهة ليرى عن كثب نتائج المعركة، ويشارك جنوده في مواجهة الموقف، وقرر أن يزور أكثر المواقع تقدمًا، وهي التي لم تكن تبعد عن مرمى نيران الكيان الصهيوني سوى 250 مترًا، ووقع اختياره على الموقع رقم 6؛ حيث انهالت نيران العدو فجأة على المنطقة التي كان يقف فيها ساعة ونصف الساعة إلى أن انفجرت إحدى طلقات المدفعية بالقرب من الحفرة التي كان يقود المعركة منها، ونتيجة للشظايا القاتلة وتفريغ الهواء تُوفي عبد المنعم رياض بعد 32 عامًا قضاها عاملاً في الجيش متأثرًا بجراحه.
والقادة الأبطال الذين تولوا قيادة معارك أكتوبر، وحققوا النصر معروفون تاريخيًّا دون تزوير وتزييف، وهم:
1- الفريق أول: أحمد إسماعيل علي وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة.
2– لواء: سعد الشاذلي رئيس الأركان.
3- لواء: محمد عبد الغني الجمسي رئيس هيئة العمليات.
4- لواء: محمد علي فهمي قائد قوات الدفاع المدني.
5- لواء بحري: فؤاد أبو ذكري قائد القوات البحرية.
6- لواء طيار: محمد حسني مبارك قائد القوات الجوية.
7- لواء: محمد سعيد الماحي مدير سلاح المدفعية.
8- لواء: كمال حسن علي مدير سلاح المدرعات.
9- لواء مهندس: جمال محمد علي مدير سلاح المهندسين.
10- عميد: نبيل شكري قائد قوات الصاعقة.
11- عميد: محمود عبد الله قائد قوات المظلات.
12- لواء: عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث.
13- لواء: سعد مأمون قائد الجيش الثاني.
14- عميد: أحمد بدوي قائد الفرقة 7 مشاة.
15- عميد: يوسف عفيفي قائد الفرقة 19 مشاة.
16- عميد: محمد أبو الفتوح محرم قائد الفرقة 6 مشاة ميكانيكي.
17- عميد: عبد رب النبي حافظ قائد الفرقة 16 مشاة.
18- عميد: حسن أبو سعدة قائد الفرقة 2 مشاة.
19- عميد: فؤاد عزيز غالي قائد الفرقة 18 مشاة ميكانيكي.
20- عميد: أحمد عبود الزمر قائد الفرقة 23 مشاة ميكانيكي.
21- عميد: إبراهيم العرابي قائد الفرقة 21 المدرعة.
22- عميد: محمد عبد العزيز قابيل قائد الفرقة 4 المدرعة.
ومعروف أن أية معركة تعتمد على القيادة والجندية، وكانت حماسة جنودنا، وخصوصًا في اقتحام خط بارليف؛ فوق التصور، وكان خط بارليف هو أقوى خط دفاعي في التاريخ الحديث كله، ومع ذلك تمكن الجيش المصري في يوم السادس من أكتوبر عام 1973م من عبور الخط، وأفقد العدو توازنه في أقل من ست ساعات، مستغلين عنصري المفاجأة والتمويه العسكريين الهائلين اللذين سبقا تلك الفترة، كما تم استغلال عناصر أخرى مثل المد والجزر واتجاه أشعة الشمس من اختراق الساتر الترابي في 81 موقعًا مختلفًا، وإزالة 3 ملايين متر مكعب من التراب عن طريق استخدام مضخات مياه ذات ضغط عالٍ، ومن ثم تم الاستيلاء على أغلب نقاطه الحصينة بخسائر محدودة، ومن الـ441 جنديّا صهيونيًّا قُتل 126 وأُسر 161، ولم تصمد إلا نقطة واحدة هي نقطة بودابست في أقصى الشمال في مواجهة بورسعيد.
وفي هذا السياق، أنبِّه القارئ إلى أن من بديهيات التكتيك العسكري التنسيق والتعاون بين الأسلحة المختلفة، في توقيت دقيق جدًّا، بلا تقدم أو تأخر تبعًا للخطة الموضوعة؛ بحيث يكون خروج أي سلاح عنها مخلاًّ بالهدف المرجو.
ونصر أكتوبر بناءً على هذا كان من صنع أسلحة متعددة: كالطيران والمشاة والمدرعات والصاعقة والبحرية وغيرها، ومن ثم يكون من الغلو والإسراف ومجافاة الواقع نسبة النصر إلى سلاح معين دون الأسلحة الأخرى.
كما أنه من المبالغة والإسراف كذلك نسبة النصر إلى قائد سلاح معين دون القادة الآخرين، كنسبته إلى قائد الطيران منفردًا أو غيره من القادة.
ومن المبالغة والإسراف كذلك بناء النصر على ترتيب الضربة أو الهجوم، فيقال: فلان هو الذي حقق نصر أكتوبر؛ لأنه صاحب الضربة الأولى، فقد يكون تأخير الضربة ضرورة عسكرية تبعًا للخطة الموضوعة.
ومن ثم يكون الأصح أن ننسب النصر لمجموعة القادة الذين خططوا للحرب، وأشرفوا عليها، وفوق هؤلاء جميعًا شعبنا الأبي الذي اقتحم بشراسة وإيمان، دون مبالاة، وقد هانت عليه نفسه ودمه، وكان هتاف "الله أكبر" أقوى من قذائف الطيران، وهزيم المدافع، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 7).